الذي نعرفه أن لا أحد من البشر يتمنى أن يكون سجيناً في يوم من الأيام فالحبس كريه وأول ما فيه هو فقدان الحرية ومن هنا تصيب أحدنا الدهشة حين يقرأ أو يعرف أو يسمع عن أناس سعوا بأرجلهم إلى السجن وهم فيه مستمتعون أكثر مما لو كانوا في بيوتهم.
ومؤخراً قرأنا عن الشاب اليوناني من بيرييه بأثينا الذي سرق دكاناً في وضح النهار لكي يعتقله البوليس وأمام القاضي اعترف بجريمته وطالب بالسجن المؤبد وحين عرف القاضي السبب أطلق سراحه فيما راح الشاب يشتم ويلعن لأنه لم يأخذ ولا سنة حكماً في السجن.
الشاب كان يريد العودة للسجن لكي يكون بالقرب من حبيبته التي تعرّف عليها وأحبها وأحبته حين كان يقضي معها عقوبة سابقة لكنني بعد أن قرأت عن سجن «فالنسيا» الإسباني وسجون الخمس نجوم بكولومبيا أكاد أجزم أن الشاب كان كاذباً في ادعائه بأن الحب هو السبب في رغبته بالعودة إلى الحبس، إذ لا شك هناك أسباب أخرى خاصة أن الشاب عاطل عن العمل.
ونعلم أن في أوروبا تحديداً والعالم المتحضر عموماً يعاملون السجناء كبشر حقيقيين وليس كحيوانات كما في العالم الثالث ومن هنا فإن السجون التي يقيمونها هي مراكز استجمام أكثر منها سجون، فسجن «فالنسيا» كمثال وهو أحدث ثلاثة سجون في العالم يبدو عند رؤيته كمخيم ضخم لقضاء العطلات والاجازات بديكوره الفخم ومنشآته البديعة ويجد فيه السجناء ما لم يحلموا بالحصول عليه وهم أحرار طلقاء فالمكان نظيف دافئ شتاء بارد صيفاً ومضاء ومزود بأجهزة تلفزيون وإذاعة ولكل سجين في السجن مناهج تعليمية ويمارسون الرياضات والهوايات الأخرى كالسباحة والألعاب البدنية والقراءة.
وفوق ذلك لا يأكلون على حساب الحكومة فقط، بل إن الحكومة تدفع لهم راتباً كل أسبوعين ليشتروا ما يحتاجونه من سجائر ومشروبات وأيس كريم وشكولاتة وغير ذلك من كافتيريا ملحقة بالسجن والأهم أنه لا أحد هناك يرفع عليهم العصا ويشتمهم أو ينظف لهم أظافرهم بالكهرباء!
ولأن السجن مقامات ودرجات حسب مقام كل سجين وحجم جريمته فإن كولومبيا تعهدت لكبار مجرمي وتجار وبارونات المخدرات نظير تسليمهم أنفسهم بوضعهم في سجن «خمس نجوم» بحراسة عليهم وخدمات يقوم بها «جرسونية» ولا في أفخم الفنادق يلبون كل طلباتهم فبالهاتف يطلب الواحد منهم «الروم سيرفس» ليجلب له «ستيك فيمييه» أو يطلب من «الأوبريتور» إيقاظه في السادسة ليقرأ الصحف باكراً وهكذا.
وآخر أخبار سجون المقامات العالية هذه أن الدون رافاييلو كوتونو زعيم مافيا نابولي المسماه «الكامورا الجديدة المنظمة» أوقع الدولة كلها في حيرة سياسية، حين طلب بالسماح له في إنجاب طفل وهو قابع خلف القضبان حيث يقضي منذ ٢٧ سنة عقوبة السجن المؤبد ورفض الدون اقتراحاً بالإنجاب الصناعي لأنه «يريد طفلاً يولد في الحب» كما يقول وعليه فإن الدولة تتساءل: هل تسمح له بلقاء زوجته الشابة ايماكولاتارا فاييلو داخل السجن أم خارجه والأهم هل يسمح لزعيم خطير من زعماء المافيا بأن ينجب فتستمر المافيا في التناسل والتكاثر فما الحكمة من حبس الدون إذن؟
ولحين ما ينتهي الجدل الدائر في إيطاليا بين رجال الدين والقضاة ووزارة الداخلية ووزارة الصحة وغيرها من الجهات المعنية التي أشغلها الدون المافياوي بمطلبه نلتفت قليلاً لسجناء العالم الثالث الذين نتصور الواحد منهم يتمنى لو عرف بأخبار زملائه في العالم فقام بجريمته في إسبانيا حتى لو كانت جريمة صغيرة من نوع «شيك بدون رصيد» بقيمة ألف درهم وآخر تجده يعض أصابعه ندماً لأنه ارتكب سرقة حين كان جائعاً ولم يقم بجريمة مروعة ضخمة من نوع جرائم الدون ورفاقه الكولومبيين وآخرين نجدهم وقد أثارتهم هذه الأخبار فبدأوا بالإضراب والاعتصام في السجن للمطالبة بجهاز تلفزيون ولو أبيض وأسود وغير ذلك من الرغبات لكن الحمد لله أن هؤلاء السجناء لم يسمعوا بأخبار زملائهم ولا بأخبار السجون الفخمة لأنهم ببساطة لا يقرأون الصحف في السجون!
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.