عندي أن النظام العالمي الجديد بطيخة.
وقد حاولت مراراً وجاهداً – كما أعتقد أن آخرين غيري حاولوا – أن أجد تعريفاً محدداً وواضحاً لهذا النظام، وذلك من خلال الأحداث الكبيرة والحاسمة التي يشهدها العالم حالياً، ومن خلال التصريحات السياسية والمقالات والخطب والتحليلات، لكنني فشلت.
وكنت على وشك أن أحل المعضلة، وأبتكر تعريفاً من عندي لفك لغز هذا النظام فأشبهه بالبطيخة، التي تراها من الخارج مدورة خضراء لامعة تغري بالشراء دون أن تعرف داخلها، أحمر أو أبيض، فتكون لحظتها كالمغامر، حتى أمسكت بطرف خيط مصدره جزر الانتيل ووجدت فيه بداية مساعدة لفهم هذا النظام.
فقد جاء في خبر أن سكان الانتيل في بحر الكاريبي شكلوا جبهة سموها «الجبهة الشعبية لعدم تحرير الانتيل» على عكس كل حركات التحرير والتحرر في العالم، وهدفهم منع هولندا التي تحتل بلادهم منذ القرن السابع عشر من الانسحاب من الجزر أي أنهم يرفضون الاستقلال، على عكس ما تفعله شعوب أخرى في آسيا وأوروبا وغيرها، وبعضها ليس محتلاً لكنه يريد الانفصال بحجة النظام العالمي الجديد الذي من ركائزه الحرية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير إلى آخر هذا الكلام.
ولفهم هذا التصرف الانتيلي، الذي بدا للوهلة الأولى متناقضاً تماماً مع روح النظام الجديد، كان لابد من معرفة طريقة تفكير سكان الجزيرة التي تحكم سلوكياتهم من خلال معتقداتهم وأفكارهم فاكتشفت أن الجماعة يؤمنون بحكمة انتيلية قديمة تقول إنه حيثما تصل يدك يجب أن تعلق سلتك، وبما أن أيديهم لا تستطيع الوصول أبعد من أنوفهم، على عكس هولندا وغيرها من الدول الغربية، التي استطاعت أيديها أن تصل إلى شواطئ الانتيل والفوكلاند وغيرهما وحتى تخوم القمر والمريخ، فإن مغامرة الاستقلال بالنسبة لهم أفدح ثمناً من البقاء تحت سلطة هولندا، ويدعم هذا الاستنتاج مثل آخر سائد عندهم يقول بأن قرني الثور لم يكونا أبداً ثقيلين على رأس، كما أن خبز المرضعة عندهم الذ من حلوى آلام.
هذه الواقعية الانتيلية، هي جزء من مقاييس النظام الجديد، خاصة أن هذا النظام تقوده الآن وتروج له الدول الغربية أكثر من غيرها بزعامة أمريكا، والعاقل يقول بأنه من الأفضل أن تكون جزءاً من هذا النظام وتحت سلطته فتحظى بالمستقبل وامتيازاته، من أن تكون خارجه فتخسر المستقبل.
أكثر من ذلك، فإن هذا النظام يمنح من يشاء صكوك الاستقلال ويطالب لمن يشاء بالحرية، يمنع عن الغير المطالب نفسها كمثال جمهوريات البلطيق من ناحية وكمثال كرواتيا من ناحية أخرى وذلك حسب المصلحة الغربية من عدمها خاصة بعد انهيار القطب الشرقي، وعليه فإن سكان جزر الانتيل فهموا روح هذا النظام الجديد وأسسه وقواعده، فسارعوا امتثالاً لفهمهم لهذا النظام من ناحية ولمعتقداتهم من ناحية أخرى، إلى إعلان عدم الاستقلال، لكي لا يكون نصيبهم من نصيب نيكاراجوا وبنما وكوبا وكل دول الكاريبي التي تمرمطت أو في طريقها إلى المرمطة مع أنها دول مستقلة.
وكان يمكن أن يكون ما قلته سابقاً صحيحاً، ويفسر التصرف الغريب لسكان الانتيل من جهة، ويقدم لي خيطاً لفهم النظام العالمي الجديد من جهة أخرى حتى عرفت أن حاكم الجزر عربي من أصل لبناني، فبطل العجب، وقلت لنفسي: خليك على نظرية البطيخة، حتى اشعار آخر.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.