كنت أتمنى اليوم لو أن جحا الذي تعرفونه لا غيره كان واحداً من المستشارين ضمن وفد عربي مفاوض في مدريد، لترونه بعمامته في القصر الملكي التاريخي حيث يعقد مؤتمر السلام.
وحيث إن المؤتمر سيبدأ أعماله اليوم، دون أن نعرف حقيقة ما هي النتائج التي سيسفر عنها، فإنني أشبهه بملفوفة جحا، وقصتها أن رجلاً جاء إليه وفي يده بيضة فسأله: إذا حزرت ما في يدي أعمل لك منه عجة، فطلب منه جحا أن يصف شكله ولونه، فقال الرجل: هو بيضاوي الشكل خارجه أبيض وداخله أصفر فأجاب جحا: لقد حزرت، إنه ملفوفة فرغوا داخلها وحشوها جزراً.
لذا، فنحن لا نعرف إن كان ما بداخل المؤتمر جزراً سنذوقه، أم غير ذلك من النكسات التي تتوالى علينا في كل حقبة، فكل الأمور متروكة للتفاوض، على حسب الترتيب الأمريكي للمؤتمر مع اننا نتمنى أن يكون مصيدة حقيقية لإسرائيل لا تعرف الخروج منها دون أن تسلم ما سرقته ونهبته.
وبما أن المؤتمر تاريخي بكل المواصفات وعلى حسب وصف كافة المصادر له فإننا نعود إلى التاريخ وإلى جحا تحديداً، الذي قلنا إننا نتمنى لو كان مستشاراً لوفد عربي في مدريد اليوم، ليعرف كيف يلعب على المفاوض اليهودي ويضحك عليه ويخدعه فيسلبه ما يملكه وما لا يملكه، بالقانون والمنطق.
فمن قصص جحا أن يهودياً سمعه يدعو الله أن يعطيه ألف قطعة ذهب، وأنه لن يقبلها إذا كانت ٩٩٩، فأراد اليهودي تجربة جحا، فرمى إليه من النافذة بكيس فيه ألف قطعة ذهب إلا واحدة، وبعد أن عدها جحا ووجدها ناقصة لم يرفضها بل أخذها وحمد الله ثم خبأها، فما كان من اليهودي إلا أن أسرع إلى جحا يطالبه بردها، فرفض جحا كونه لم ير اليهودي ولم يأخذ منه شيئاً ولا يعرفه أصلاً.
وحين اختلفا اتفقا على الذهاب إلى القاضي ليحكم بينهما، لكن جحا تعذر بحجة أن بيت القاضي بعيد والجو بارد، فجاءه اليهودي ببغلة وفروة تقيه البرد، فركب إلى القاضي فيما اليهودي يمشي وراءه.
عند القاضي ادعى جحا أن اليهودي يريد أن يسلبه ماله الذي أعطاه إياه الله بعد دعاء ورجاء وروى له الحكاية، ثم أضاف إن هذا اليهودي الماكر سيدعي بعد قليل أن البغلة التي بالخارج هي له، فاندهش اليهودي وقال: أو تنكر أيضاً أن البغلة لي، أو تنكر أيضاً أن هذه الفروة التي ترتديها لي؟ وهنا قفز جحا قائلاً: أرأيت أيها القاضي طمع اليهودي، ومكره، فقرر القاضي طرد اليهودي، وقال له: أخرج من هنا، فقد ظهر بطلان دعوتك وحيلك التي تريد عبرها سلب هذا المسكين ماله وأملاكه.
غير أن المفارقة هي أن إسرائيل في محكمة مدريد هي جحا، فبعد أن احتلت جزءاً من فلسطين وأقامت عليها دولتها العبرية استولت على أراضي وممتلكات جيرانها، وهي تدعي الآن ملكيتها لكل ما احتلته وسلبته واستولت عليه، ونخشى أن يحكم لها قاضي مدريد وهي تطالب بالمزيد مما ليس لها أصلاً كما حكم قاضينا لجحا الذي مكر عليه وعلى اليهودي.
وفي القصة أن جحا حين رأى اليهودي بعد ذلك شاكياً باكياً، رق لحاله، فرد عليه ماله وبغلته وفروته، فأسلم اليهودي على يدي جحا تقديراً لأمانته ونزاهته.
لكن ما نراه أن إسرائيل لا يمكن أن يرق قلبها القاسي علينا فترد لنا ما نملك من حقوق، خاصة أنه ليس لدينا في مدريد جحا يواجه شامير وألاعيبه ومكره وما لنا من أمل إلا «الملاس» الأمريكي ليستخرج لنا ما هو موجود في قدر المؤتمر، هذا إذا كان هذا «الملاس» لنا لا علينا، وإلا فالمؤتمر التاريخي الذي سنشاهده اليوم عبر الأقمار الصناعية، ليس إلا ملفوفة معاصرة قد تكون محشوة بالجزر، أو بغيره مما نجهل حتى الآن.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.