يا سبحان الله
طلعت هاتان الكلمتان أمس وأول أمس من أفواه البعض ممن كانوا يراقبون افتتاح مؤتمر السلام في مدريد على شاشة التلفزيون وأعمال يومه الثاني، بعضهم قالهما بعفوية وتلقائية لا تخلوان من دهشة مفاجئة وكأنهم في غيبوبة مأخوذين بما يشاهدون غير مصدقين لما يدور أمامهم على الشاشة الصغيرة وكأنه فيلم من أفلام الخيال العلمي، وآخرون قالوها وهم مصعوقون شبه مأخوذين.
آخرون سمعتهم يتمتمون: الله يرحم أنور السادات.
عند هؤلاء جميعاً بدا الأمر وكأنه خيال، شيء لا يصدق، خاصة وهم يرون «حبيب القلب» اسحق شامير يعتلي سلم القصر التاريخي في طريقه إلى القاعة حيث سبقه إليها بعض رؤساء وفود ووفود الدول العربية المشاركة. أو حين شاهدوه متصدراً الطاولة بين الوفدين المصري واللبناني ومواجهاً كلاً من وفود سوريا والأردن والفلسطينيين مع زاوية تميل قليلاً حتى لا تلتقي عيون شامير «الدبلانة» مع عيون الآخرين بشكل مباشر.
ومع أن المؤتمر لم يكن حدثاً مفاجئاً، إذ إن الترتيب له كان يجري منذ زمن، وموافقة الدول العربية عليه أعلنت من قبل، ثم إن موعده ومكان انعقاده قد تحددا قبل وقت كافٍ ليحضر البعض منا نفسيته وعقله له، وليتخيل ما يشاء من مشاهد وصور لأعداء الأمس وهم يتواجهون ليتفاوضوا، إلا أن عنصر الذهول غير المفهوم هذه المرة كان حاضراً عند البعض، ولا تفسير عندي له، سوى أن الموت، وهو ما نؤمن به كقضاء وقدر وكحق وكأمر لابد منه في نهاية المطاف، وندرك أنه آت إلينا أو إلى من نحب، ومع ذلك فإنه عندما يقع نلطم الخدود ونذرف الدمع وتصعقنا لحظته وتخرس ألسنتنا. ولا أعني بذلك أن أشبه مؤتمر مدريد بالموت، إذ لعل فيه بداية حياة جديدة للعرب، وبداية حياة جديدة لمن تعذب وعانى وتشتت وذاق الأمرين منهم، خاصة إخواننا الفلسطينيين. وشعوب دول المواجهة، وهذا ما نتمناه حقيقة من لقاء مدريد.
غير أن لحظات الأمس التاريخية، ونحن نشاهد قاعة المؤتمر بمن فيها، عادت إليّ شخصياً، وجعلتني أواجه أسئلة وجهها لي عبر الأيام القليلة الماضية عدد من القراء الكرام، يطلبون توضيح موقفي من مؤتمر السلام، هل أنا ضده أو معه.
ومع أن موقفي ليس مهماً لأحد، ولن يغير من الأمر شيئاً، ولن يجعل الوفود العربية في المؤتمر تتمسك به.. وإلا فلا سلام مع الكيان الصهيوني … فإنني أجيب القراء بما يلي:
أنا مع مؤتمر السلام إذا تحقق منه الآتي:
- انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة وهي الجولان وجنوب لبنان والضفة الغربية وغزة ومدينة القدس وعودتها للسيادة العربية.
- إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعودة الفلسطينيين المشردين إلى أرضهم ووطنهم.
- تعويض المتضررين من الاحتلال الإسرائيلي، سواء ممن سرقت إسرائيل بيوتهم وأراضيهم وأقامت عليها مستوطناتها أو الذين قتلوا وأصيبوا وسجنوا بأيدي قوات أمنها.
وهذا الشرط الأخير إضافة من عندي، لكي نعجل به ولا يسبقنا عليه شامير فيطالبنا بتعويضات عن مستوطناته وجنوده الذين قتلناهم في حروبنا مع إسرائيل أو في عمليات فدائية فنظل ندفع لمائة عام مقبلة.
أما عن إقامة العلاقات مع إسرائيل والمشاريع الاقتصادية والتجارية والتبادل السياحي وفتح الحدود معها، فلا يمكن الحديث عنها قبل تحقيق الحد الأدنى المطلوب والذي لأجله شددنا الرحال إلى مدريد.
وإذا لم يتحقق هذا الحد الأدنى فسأقول معكم وبلسان واحد: يا أولاد نحن انضحك علينا وأكلناها زمبة في مدريد.
وسامحونا والله على ما نقول شهيد.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.