من دهاليز وأروقة وخبايا مؤتمر مدريد أن شامير بعث بورقة إلى جيمس بيكر الثالث بعد انتهاء حيدر عبد الشافي من إلقاء كلمته، كتب فيها إنه سينسحب اعتراضاً على ذكر اسم المنظمة في ختام كلمة عبد الشافي فرد عليه بيكر بورقة، فبقي شامير ووفده على الكراسي ولم ينسحب أحد.
ولم يكشف بعد عما كتبه بيكر في الورقة لشامير وإن كان من المرجح أنه كتب: «إلزم مكانك يا شامير» غير أن بيكر كتب بعد ذلك ورقة إلى صديق له في أحد الوفود العربية قال فيها «سينسحب الإسرائيليون الأشرار من المؤتمر» فرد الصديق العربي بورقة إلى بيكر كتب فيها «قد ينسحب الإسرائيليون الأشرار من المؤتمر ولكن الأمريكيين الطيبين سيبقون».
بيد أن الطيبين في أمريكا قلة، ولا يحسبن الواحد منا أن الإدارة الأمريكية هي الكل في الكل، ولا أن بوش وجيمس بيكر بيدهما مفاتيح الأبواب المغلقة خاصة بعد أن ضغطا أيام أزمة الخليج ومارسا كل جهد حتى تم تحرير الكويت ونجحا في الشطر الأول من عملية السلام حين أتيا بإسرائيل إلى مدريد فثمة قوى في أمريكا غير طيبة سواء في الكونجرس أو في مراكز القوى الاقتصادية والسياسية وعلى رأسها اللوبي الصهيوني المسيطر على الاقتصاد والإعلام.
من هنا يمكن تفسير الغموض الذي يغشى تصريحات وكلمات بوش وبيكر نفسيهما ومن ذلك كلمة بوش لدى افتتاح مؤتمر مدريد، ومنها أيضاً تصريحه الأخير حين قال بلا أية إضافة أو تفسير إن القدس ستبقى موحدة إلى الأبد دون أن نعرف لصالح من هذا الكلام، لنا أم لإسرائيل، ومن ذلك تصريحات بيكر التي يكرر فيها عدم التدخل الأمريكي ولا ممارسة الضغط على أي طرف عند بدء المفاوضات الثنائية وإن كان البعض يفهم هذا الغموض في سياق صراع الرجلين الداخلي مع قوى تعارض أي ضغط على إسرائيل من أجل دفعها لتقديم تنازلات.
ويمكن أن نضيف أيضاً إلى ما سبق الإشارات شبه الواضحة التي صدرت من أكثر من مسؤول أمريكي بما فيهم بيكر حول مؤتمر موسع مواز لمؤتمر مدريد تشارك فيه حوالي ٤٠ دولة لبحث كل قضايا المنطقة كالمياه والتسلح والبيئة والتعاون والاستثمار الاقتصادي والتجاري وعدم ربط هذا المؤتمر بما يحصل ولا بنتائج المفاوضات الثنائية مما يعني تراجع أهمية القضايا الأساسية التي ذهبنا من أجلها إلى مدريد وعلى رأسها الأراضي والحقوق الفلسطينية لصالح رؤية الكبار للنظام الدولي الجديد ومصلحتهم فيه ومنه.
ونرجو ألا يكون هذا الكلام صحيحاً وإنما هو من باب المناورات السياسية لكسب تأييد القوى الضاغطة على الإدارة الأمريكية ولكسب ثقتها بحيث تكون عوناً لبوش وبيكر على شامير وطاقمه المتشدد الذي يضم عدداً لا بأس به من صقور وغربان الحكومة الإسرائيلية الذي لا يزال حتى أثناء زيارته الحالية لواشنطن يوسع بناء المستوطنات ويكرر الرفض عن التنازل عن شبر من الأرض المحتلة.
نقول هذا، لأنه بعد دخولنا قرقور السلام لم يعد من أجل لدينا في الحصول على حقوقنا إلا باستمرار بقاء «الأمريكيين الطيبين» إلى جانبنا مثل بوش وفريقه ونجاحهم في التصدي لزعماء اليهود ولقوى الضغط الأخرى، وإلا فمن غير أمريكا الآن تستطيع أن تقول لإسرائيل: كفى!
وإذا لم يحصل ذلك فلا حقوق ولا سلام و«تيتي تيتي زي ما رحتي جيتي» وربما أسوأ.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.