عبد الحميد أحمد

الوطن أغنية الجميع

من حكايات التاريخ نستعير هذه: قيل لإعرابي: كيف تبترد بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟

فرد الأعرابي: وهل العيش إلا هناك؟ يركض أحدنا ميلاً فيفصد عرقاً كالجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه وتقبل عليه الرياح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى.

ونحن ركضنا عشرين عاماً كاملة، وها نحن ننصب الزينات ونرفع الأعلام ونستظل دولة، فيما حبات العرق تلمع فوق جباهنا كالجمان.

ولو لم يكن وطننا إلا عصا وكساء وسط صحراء هاجرة لما وجدنا مفراً من حبه، فالوطن هو بلاد نيطت بها علينا تمائمنا وأول أرض مس جلودنا ترابها، كما يقول بيت الشعر الشهير لأبي فراس الحمداني، فكيف بوطننا الآن وقد صار كله ظللا وارفاً ممتداً؟

ثم إن انساناً من دون وطن هو عندليب من دون أغنية، ونحن صار عندنا أغنية، وصار عندنا وطن نغنيه.

قبل الثاني من ديسمبر عام ٧١ كنا بلا أغنية، وبلا أسماء، ولا هويات وفي هذا اليوم كان عيد ميلادنا الحقيقي، واليوم الذي منحنا فيه شهادة الولادة بين الأمم والشعوب والدول، وصار لنا موقع على خريطة الكرة الأرضية ينظر إليه التلاميذ في فصول الدراسة، وصار لنا علم ونشيد وجوازات سفر، وصار لنا أسماء وأوصاف ووجوه وملامح، ومنه صرنا ننتمي لوطن، بعد أن كنا ننتمي إلى خيمة هناك، أو مضرب إبل هنا، أو مورد ماء هناك، أو حارة طين على شاطئ هنا.

واليوم صار عمرنا عشرين، هو عمر شجرة الاتحاد التي غرسناها بذرة صغيرة، قال عنها الآخرون: يا للمغامرة، ثم سقيناها حناناً ورعاية وعرقاً، حتى شبت ودانت قطوفها وظللت غصونها الوارفة حياتنا بالأمل ومعنى الوجود والأغنيات.

ولو لم يكن الاتحاد لما كنا، ولو لم تنم شجرته بإصرار وقوة لما شعرنا بعافية هي عافية الاتحاد تسري في عروقنا مع مسرى الدم.

ويمكن لمن يريد أن نعدد عبقرية هذا التحول في ألف ألف مظهر، لولا أن ما هو ظاهر للعيان على الأرض يكفي ويزيد، ويعفي عن أي إضافة قد تجرح روعة الظاهر لو خانها التعبير، ولابد يخونها، وهو مالا نجرؤ عليه ولا نستطيع.

ومثلما ركضنا عشرين عاماً، سنركض عشرين أخرى، مائة أخرى، ألفاً أخرى، لكي نكون أهلاً لوطن منحنا كل هذا الحب، كل هذه الأغنيات، ومنحنا فوق كل شيء شهادة الميلاد وسنمضي نعمل لكي تنغرس في رمالنا جذور شجرة الاتحاد أعمق أعمق وترتفع قامتها أعلى أعلى.

وللوطن سنغني مثلما غنى ذات يوم شاعر عربي:

بلد صحبت به الطفولة والصبا

ولبست ثوب العمر وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أغصان الشباب تميد

 

أو مثلما غنى آخر:

وطني لو خير الحسن لما

                        اختار إلاه من الدنيا مقر

عفوك اللهم إن همنا به

                        وعبدناه تراباً وحجر

وكل عام والوطن أغنية فوق شفاهنا وبين الضلوع.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.