عبد الحميد أحمد

ما أحلى الواقعية

قارئة عربية احتجت أمس بشدة وذكرني احتجاجها بما سمعناه طول عمرنا من احتجاجات وبيانات شجب وتنديد عربية ضد إسرائيل في الإذاعات والصحف وحتى من على منبر الأمم المتحدة، وتقول: هل أنت مستكثر على المواطن العربي حتى مجرد أن يحلم ويتمنى ما يريده لامته، إذن ماذا تبقى لهذا المواطن؟ وبما أنني اتفق معها وأؤيدها في احتجاجها عنيف اللهجة الذي جاء هادراً في التليفون كجلمود صخر حطه السيل من لسانها فإنني استنكر ومن على هذا المنبر محاولات تجريد المواطن العربي من أحلامه وأشجب بعنف المؤامرات الخارجية والداخلية التي تحاك ضد هذا المواطن العربي من أحلام وأشجب بعنف المؤامرات الخارجية والداخلية التي تحاك ضد هذا المواطن الغلبان الذي لم يعد له من حيل إلا النوم، والأحلام السعيدة بل وأطالب بضرورة النضال من أجل أن نجعل لهذا المواطن مكانة تحت الشمس لا وراء الشمس. غير أن القارئة الكريمة وأنا معها علينا أن نصحو من أوهامنا فحتى لغة الشجب والتنديد والاستنكار لم نعد نسمعها هذه الأيام وحلت محلها لغة الواقعية التي تتفق وروح النظام العالمي الجديد الذي لا يحب كلمات الحرب والجهاد والاستنكار بل كلمات الوفاق والصلح والتعاون والسلام والمجاملات فنحن العرب لا نريد أحداً أن يتهمنا بأننا خارج دائرة التاريخ وأننا نسير عكس التيار وأن سلوكنا السياسي يخرب النظام العالمي الذي من ملامحه انهيار الاتحاد السوفييتي عن بكرة أبيه وبسرعة كبيرة كما لو كان قد أصيب بالإيدز.

وأتصور أن المواطن العربي في كل بلد عربي صحا من أحلامه الوردية التي رآها عاماً بعد عام تنزوي فلا أمة عربية واحدة، ولا قضية مركزية وجوهرية ولا تكامل اقتصادي بل تكاسل اقتصادي ولا حتى موقف سياسي موحد تجاه أصغر قضية، وبما أن أحلامه عصية على التحقق والإنجاز وبما أنه كلما رفع صوته بها عالياً، زادت سرعة رجوعها إلى الخلف، فإنه بلا شك استبدلها بأحلام أخرى أكثر تواضعاً، وأخف وطأة على قلوب الحكومات وفي أسماعها بل إنه أصبح يدعو الله ألا يرى أحلاماً في منامه حتى ولو كانت سعيدة.

فبعض إخواننا لا يريد وحدة عربية، بل شقة يتزوج فيها خطيبته التي مضى على خطبتها عشر سنوات، وآخرون لا يريدون تحرير فلسطين فالأولوية الآن للحصول على كيلو عدس بقرش وعلى فرخة بربع جنيه، وبعض إخواننا لم يعودوا يحلمون بسكة قطار من مراكش حتى بغداد، بل بوظيفة وعمل ولو بواب عمارة وآخرون نسوا أن بلادهم سلة غذاء الوطن العربي ومعها نسوا شكل الصابون والشاي والسكر، وغيرهم لا يريد لا حرية ولا اشتراكية ولا مساواة بل جواز سفر لعلاج مرضاهم في الخارج قبل أن يموتوا من نقص الدواء والبعوض والذباب وهكذا. وحيث إن هذه المطالب أكثر واقعية من الأحلام الكبيرة التي ندبجها في مطلع كل عام، فإن الحلم بها بصوت عالٍ في بعض دولنا غير مسموح به لأنها أحلام سياسية، فالمواطن العربي الذي تشتهي زوجته بطيخة وتتوحم عليها، لا يستطيع أن يجاهر بما تشتهيه زوجته لأن في ذلك انتقاداً مباشراً لسياسة بلاده الزراعية أقل جزاء له السجن مدى الحياة أو الإعدام في حال الرأفة ذبحاً بسكين بدلاً من البطيخة.

لذا نقول للقارئة المحتجة ولغيرها بطلوا أحلاماً بالمرة لأن أحلامكم من نوع النق والزن الذي يجلب الكوارث ويؤخر مسيرتنا النهضوية والتنموية والتعبوية والاشتراكية والديمقراطية والديناميكية والاستاتيكية والكهربية والمغناطيسية وكافة أنواع المسيرات الأخرى المظفرة بإذن الله.

وعني تسأل القارئة: أليست عندك أحلام للعام الجديد؟ فأجيبها: نعم، جهاز تليفون نقال متطور أكثر من الطواش الحالي وكلي ثقة أن اتصالات لن تخذل أحلامي… وما أحلى الواقعية!
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.