عبد الحميد أحمد

الديمقراطية تأكل الديمقراطية

هل يمكن للديمقراطية أن تأكل الديمقراطية؟ إذا حدث هذا، فإن ذلك سيكون نوعاً من الديمقراطية من اختراعنا نهديه للعالم، وتحديداً للعالم الديمقراطي منه.

ونتحدث اليوم عما يجري في الجزائر، بجدية، لأن ما يجري في البلد الذي عرفناه وسميناه ببلد المليون شهيد، لدوره الوطني في طرد الاستعمار، لا يحتمل أي نوع من الضحك أو الهزل فاحتمالات ما يجري تنفتح واسعاً حتى على أبواب جهنم، وجحيم الحرب الأهلية.

وتلخص ما يجري سيدة جزائرية قالت لوكالة أنباء غربية عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الدور الأول من الانتخابات بأكثرية مطلقة في مقاعد البرلمان المقبل، إنها لن يبقى عليها إلا أن تتحجب أو تحمل حقيبة السفر، في إشارة واضحة إلى المستقبل الذي ينتظر الجزائر في حال حكمت الجبهة وطبقت برنامجها الذي يدعو إلى حكم إسلامي كما تفهمه هذه الجبهة.

ولأن هذا البرنامج ترفضه غالبية القوى السياسية في الجزائر، فقد دقت أجراس الخطر، وصعدت المواجهة الديمقراطية حين دعت إلى مسيرة لإنقاذ الجزائر والديمقراطية تظاهر فيها أكثر من ٨٠٠ ألف جزائري، وذهب بعض هذه القوى بعيداً حين طالب بإلغاء نتائج الدور الأول من الانتخابات، وبعضها طالب بتدخل الجيش وتعطيل الدستور، والديمقراطية نفسها إنقاذاً للديمقراطية، كل ذلك لمنع جبهة الإنقاذ من الوصول إلى حكم الجزائر عن طريق أصوات الناخبين وكان ضمن هذه القوى ما يسمى بزعماء القبائل.

وفي ذلك ما فيه من مفارقات غير ديمقراطية، فأولاً، فوز جبهة الإنقاذ ودنوها من الحكم حدث بقوة الديمقراطية نفسها وليس بالعنف وقوة السلاح والعصيان والإرهاب، فكيف يمكن منعها وسد الطريق عليها من الوصول إلى الحكم بطرق غير ديمقراطية وقهرية، ثم كيف يمكن لأي مواطن جزائري يؤمن بالديمقراطية ويتشوق إليها بعد زمن طويل، وهي تريد الانقلاب على الديمقراطية؟

ومفهوم طبعاً أن مثل هذه الدعوات تنطلق من مخاوف أنه في حال استلام الجبهة للحكم فإنها ستنقلب على الديمقراطية وتنسفها وستحول البلاد مرة أخرى إلى حكم الحزب الواحد، فبرنامج الجبهة وأفكارها لا يؤمن بالتعددية، وقد صرح بعض زعمائها ولايزال بعضهم الآخر يصرح ويجاهر بهذه الحقيقة، مما يعطي الأطراف الأخرى المعارضة لها شيئاً من الحق في منعها من النجاح والحكم ولو بالقوة.

هنا تحديداً يكمن مأزق القوى الديمقراطية والليبرالية، التي فاجأها فوز الجبهة الساحق ومناورات زعيمها المؤقت الشاب عبد القادر الحشاني البارعة، بين أن تقبل بلعبة الديمقراطية حتى آخر شوطها وتتحمل نتائجها، وبين أن تنقلب على أصول هذه اللعبة مبكراً، وتتحول إلى قوى غير ديمقراطية ممارسة وعملاً، ومواجهات دامية، أقلها الصراع على المكشوف والحرب الأهلية، أو تدخل الجيش لإنقاذ البلاد بإحكام قبضته على الشارع وفي كلا الحالتين مقتل للديمقراطية في مهدها، بل حتى قبل أن تبدأ.

غير أن التاريخ يعلمنا أن ليس أمام الشعوب إلا هذا الطريق، طريق الديمقراطية، الذي عادة ما يكون فيه الدواء لكل الأمراض والعلل، بما في ذلك علل الديمقراطية نفسها، أما سقوط الجزائر في أول درس لها في مدرسة الديمقراطية، فمعناه سقوط شعوب عربية أخرى في الدرس نفسه، ونكوص عن ديمقراطية لم تبدأ بعد، ولم تعرفها دولنا العربية طوال تاريخها الحديث إلا فيما ندر.

لهذا نقول، حفظ الله الجزائر، وحفظ لشعبها خياره الديمقراطي ونجاه من شرور الاقتتال الأهلي.