سأل زوج أوكراني يعيش في كييف زوجته التي استيقظت مبكراً واستعدت للخروج: إلى أين؟ ولما أجابته بأنها ستذهب للحصول على لحم من المساعدات الغربية، أو على أي شيء آخر يصلح للأكل، قال لها: المساعدات تصل إلى موسكو وليس إلى أوكرانيا، فأجابته: أعلم ذلك ولكن الطابور يبدأ من هنا، من كييف.
وتلك ليست إلا نكتة مُرة تعكس ما يجري على الأرض في دول الكومنولث، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومثل تلك النكت كانت شائعة أيضاً، قبل جورباتشوف وسياساته التي أدت إلى ما أدت إليه، لكن اليوم، كل شيء صار مراً بالنسبة للمواطن الذي كان سوفييتياً وانتهى أوكرانياً أو أذربيجانياً أو روسياً أو جورجياً، ولكن شحاذاً على موائد الغرب، الذي يرمي إليه بالفتات.
أما في الجو، فإن رائد الفضاء سيرجي كريكالوف، لم يسلم هو الآخر مما يجري على الأرض من مآسٍ، فهو مهدد بالبقاء معلقاً إلى الأبد هناك، إما لأن الذين على الأرض سينسونه نظراً لأنهم مشغولون ببطونهم وبأزماتهم، وإما نتيجة لتنفيذ المطالبات بتقليص البرنامج الفضائي الذي لم يعد له أهمية في نظر الكثيرين.
ثم إن رائد الفضاء هذا، إذا عاد إلى الأرض، فسيجد بلاده غير التي يعرفها، إذ إنه منذ انطلاقه في شهر مايو الماضي إلى الآن جرت أحداث في بلده، لم يصدقها بعد كثير من الذين على الأرض وأولها أن بلده انتهت.
غير أن الثابت أن التغيرات في الاتحاد السوفييتي سابقاً لم تنته بعد، وأن مسرحية الفوضى لم تنته فصولها، ولعل ما هو قادم سيكون أسوأ مما مر، وتعكس حالة الفوضى السياسية والاقتصادية الحالية، خروج الأمور عن مسارها وعن السيطرة التي بدا لوهلة أن يلتسين وجهازه الليبرالي يتحكمان بخيوطها، حتى ظهرت في الغرب تنبؤات بسقوط مملكة يلتسين عما قريب، كما أن كلاماً مثل كلام ألكسندر هيج وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق الذي نشرناه أمس، حين قال إن الحزب الشيوعي والكي. جي. بي، لم يقولا كلمتهما بعد، يظهر حجم الاضطراب المقبل، وحجم المخاوف مما يمكن أن يجري. وتعطي المظاهرات الحاشدة التي جرت في موسكو الأسبوع الماضي صورة ما يمكن أن يحدث، حيث تظاهر شيوعيون وقوميون، انضم إليهم لأول مرة شبان روس، ضد يلتسين تحت شعار «الوطن والخبز» مقابل مظاهرات أخرى لليبراليين المؤيدين ليلتسين تحت شعار «الفاشية لن تمر».
مظاهرات الشيوعيين التي ضمت حوالي ٢٠٠ ألف، رددت نشيد «انهض أيها الوطن لمحاربة قوى الظلام» وشعار «لا بديل عن الشيوعية» ودعا المتظاهرون لعقد دورة طارئة لمؤتمر نواب الشعب الذي حل نفسه بعد الانقلاب، ودعا بعض قادتهم إلى تشكيل حكومة عسكرية للحفاظ على الدولة الموحدة، وتنبأ آخرون بسقوط حكم الليبراليين خلال شهرين واتهمهم بالخيانة، كما اتهم، وهو عقيد ونائب سابق، مهندسي البريسترويكا بهدم الاتحاد السوفييتي تنفيذاً لإرادة قوى أجنبية وقال إنهم عملاء لوكالة الاستخبارات الأمريكية. أما مؤيدو يلتسين، فحذروا في مظاهرتهم المضادة من محاولات انقلابية وهجوم مضاد يسيطر فيه الشيوعيون على الحكم مجدداً، واتهموا روتسكوي وهو نائب يلتسين بأنه شيوعي بدل لونه، مما عكس خلافاً في معسكر الليبراليين، وكان شعارهم «الخبز والماء أفضل من أكل النفايات في اسطبل الشيوعيين». أما أحسن ما يعبر عن واقع ما يجري فهو ما قاله أحد المواطنين الروس حين سأله صحافي عن رأيه في التظاهرتين فأجاب: ليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، هؤلاء الشيوعيون منعوا الفودكا وأولئك الليبراليون يبيعون القنينة الواحدة بمائة روبل. إلا أن مصير مثل هؤلاء المساكين، وغيرهم من مواطني دول العالم، أصبح اليوم تحت رحمة زجاجة فودكا، اسمها يلتسين أو شخص آخر قد يأتي إلى السلطة، لأن هذه الزجاجة تتحكم بالسلاح النووي، وهذه الصورة العبثية، تختصرها حالة رائد الفضاء الذي طار من وطن، وسيعود إلى لا وطن، هذا إذا وجد العلماء وقتاً للتفكير فيه لإعادته إلى الأرض، بين مشاغلهم الأخرى الجديدة، البحث عن خبز، أو الهجرة إلى الخارج، وراحت عليك يا سيرجي يا ولد كريكالوف، اللي جورباتشوف ما صلى عليك، ما لك إلا أميتاب باتشان ينزلك من سابع سما.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.