أجرى علماء وأطباء فنلنديون بحثاً استمر سنوات نشرت نتائجه مؤخراً، اخضعوا فيه حوالي ألف مواطن (فنلندي طبعاً) للاختبار لمعرفة تأثيرات الطعام والسلوك اليومي لمعيشتهم على صحتهم، فاكتشفوا، أن الذين يعيشون على هواهم ومزاجهم ولا يعملون حساباً لأي تعقيدات من تلك التي يطالبنا بها الأطباء أقل إصابة بالأمراض بما فيها أمراض القلب، فيما الذين يحرصون على أنواع معينة من الأكل تجنباً للكوليسترول وعلى الرياضة وحماية صحتهم لدرجة الوسواس (الفنلنديون لا يعرفون الوسواس مثلنا)، هم الذين يموتون بالقلب وغيره من الأمراض.
بهذه النتيجة المذهلة، يكون الفنلنديون خالفوا كل ما هو معروف حتى الآن، من حقائق طبية وصحية، وسواء صدقوا فيما توصلوا إليه من نتائج أم كذبوا، فإن ما يهمنا من بحثهم هو أن الذي يعيش حياته معقداً ومنغصاً ومنكداً ومتبرماً، تكون نهايته أسرع من الذي يعيش حياته عالبارد، هادئاً، ومن غير تعقيدات لا لزوم لها.
والحمد لله أن المواطنين عندنا، غالبيتهم إن لم يكن كلهم، هم من هذا النوع، بدليل أن ما كتبناه أمس، عن سلوكيات بعض المواطنين الذين يمنحون أنفسهم «كارت بلانش» وامتيازات على غيرهم، بحكم كونهم مواطنين، يحق لهم ما لا يحق لغيرهم حتى وإن كان في هذا الحق المغلوط تجاوز القوانين والإساءة لسمعتهم، أثار رضا الكثيرين منهم، لا غضبهم ولا سخطهم، حتى إن بعضهم الذي اتصل هاتفياً، مرر نكتة أو نكتتين عن «أنا المواطن» وهذا دليل آخر على رحابة الصدر واتساعه، وتقبل المواطن، على عكس غيره من مواطني الدول العربية للنقد والانتقاد.
فأحدهم روى أن مصرياً وفلسطينياً ومواطناً من الإمارات، جمعتهم جلسة مقهى شعبي، وعلى الشيشة والمعسل دار حوار، فقال المصري: هل تعرفون البحر الأحمر؟ فأجابه الآخران: نعم. فقال: أنا الذي صبغته بالأحمر، وهنا انبرى الفلسطيني بدوره ليسأل: وهل سمعتما عن البحر الميت؟ فأجاباه: نعم فقال: أنا الذي قتلته! وكان على المواطن بالطبع ألا يتخلف عن حفلة الفشر العربية اللذيذة هذه، فسألهم: وهل سمعتما أيها الأخوان عن المحيط الهندي؟ فأجاب المصري والفلسطيني: نعم، فقال المواطن: أنا كفيله!
وطبعاً لا يمكن أن تصدر مثل هذه السالفة الحلوة إلا من مقهى شعبي، لأنه في الواقع الراهن، لا يمكن للمصري والفلسطيني والصومالي والعراقي واللبناني والسوري والخليجي، وبقية أبناء العروبة، الاجتماع معاً، وفي وقت واحد، إلا في مقهى شعبي، لأن هذا المقهى هو جامعة الدول العربية في الظل، بعد أن صار اجتماع الجامعة في العلن وعلى الهواء مباشرة متعذراً، للظروف التي تعرفونها.
وآخر روى على الهاتف أن مواطناً سمع من نشرة الأخبار التلفزيونية أن خمسة مواطنين لقوا حتفهم من أثر موجة البرد الشديدة والانهيارات الجليدية في لبنان، فعلق على الفور: يستاهلون، من الذي قال لهم أن يذهبوا إلى لبنان.
وإذا كانت كلمة المواطن عند هذا لا تعني إلا مواطننا فهي عند بطل النكتة التالية، تلخص ما قلناه أمس، وتختصر بسخرية شديدة هذه الأحقية المطلقة التي يراها المواطن لنفسه دون غيره من الوافدين.
فقد حدث أن سمع الجالسون في إحدى جمعيات النفع العام أذان المغرب، وكانوا جميعاً من الأخوة العرب، ومواطن واحد، ولما نهضوا للوضوء استعداداً للصلاة بقي المواطن جالساً، فسألوه: ألن تتوضأ يا فلان؟ فرد عليهم: لماذا أتوضأ.. أنا مواطن! فضحكوا جميعاً وأولهم المواطن صاحب النكتة.
وغير ذلك، كثير من النكت المليحة التي وصلت لهذه الزاوية، غير أنني اخترت بعضها اليوم، لكي نضحك معاً، ولعل مثل هذه النكت تجعلنا نقلع نحن المواطنين عن التعالي على خلق الله وعدم احترام الآخرين وتجاوز الأنظمة والقوانين، لكي لا نتحول بعد حين إلى صعايدة وحمامصة واسكتلنديين، وغيرهم من الذين تتفنن شعوبهم في خلق النكت عليهم، وهم منها براء، مثلما نحن أيضاً، بدليل سعة صدورنا وتقبلنا للنقد، وسماعنا لكلام الفنلنديين الذي يطول العمر ويذهب الأمراض، إذا كان كلامهم صحيحاً بالطبع.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.