مع إننا كنا نمزح أمس، إلا أن بعضاً من زملائنا الصحافيين أثار تشبيهنا لحالنا بالفنانات والرقاصات غضبهم، وهؤلاء أثبتوا بموقفهم هذا، أنهم لا يحبون أي كلام عنهم أو عليهم، حتى لو كان مزاحاً وهذراً، فيما هم ينتقدون غيرهم ويحشون خلق الله سراً جهراً، على اعتبار أن ذلك من صميم عملهم.
وهؤلاء الغاضبون، وهم قلة ولله الحمد، لا يستطيع الواحد منهم أن يثبت أنه أهم اليوم، وفي عالمنا العربي المعاصر المعصور، من أي فنانة درجة عاشرة تستهوي القلوب والأفئدة، وتحوز رضا الناس الذين صاروا كثرة يتبعون القول الشائع «الجمهور عايز كده» ولا هم في منظور ما هو سائد الآن من معايير ومفاهيم أرفع مقاماً من أي راقصة ملهى أو كباريه.
وفي ذلك، يتساوى الصحافيون، مع زملائهم الآخرين، من المشتغلين في حقل الكتابة والكلام والثقافة والفكر، الذين نسميهم الكتاب والأدباء والمثقفين، فالحال من بعضه، وهذا ما عبر عنه زميل في إحدى صحفنا حين قال تعليقاً على تشبيهنا بالرقاصات: (لقد رفعت من مقامنا)!
ثم إن أوجه الشبه التي سقناها بيننا وبينهن (حتى لا نكرر كلمة الفنانات) من باب السخرية، كان يمكننا أن نضيف عليها الكثير لإثبات القواسم المشتركة التي تجمعنا والراقصات والفنانات، حتى إن أمراضنا الشائعة بيننا، هي أمراض شائعة بينهن، أولها الدسك الذي يصيبنا من كثرة الجلوس ويصيبهن من كثرة النط والحركة والشخلعة والدلع، ومنها أيضاً القرحة التي تصيبنا من التوتر والقهوة والسجائر وتصيبهن من السهر والتدخين والعصبية.
غير أن قراءً، وهم الذين يهموننا عادة أكثر من غيرهم، مخمخوا على ما كتبناه، وسخسخوا من الضحك، حتى إن أحدهم ظل خمس دقائق يضحك على الهاتف قبل أن يتكلم، ويطالب بالمزيد، مما يجعلني أطالب هؤلاء بدفع ثمن الضحك، مثلما يدفعون عن رضا ثمن مشاهدتهم لرقصة من إحداهن، لولا أنني أعرف أن بضاعتنا، نحن الصحافيين بايرة وكاسدة ولا تجلب مالاً.
ثم إن قارئة فاكستنا، على عجل تواسينا نحن وغيرنا من المهمومين والمظلومين على الحال الذي وصلنا إليه، حتى إنها أطلقت على حضرتنا لقب «المكافح» باعتبار أنني وغيري من أبناء هذه المهنة نستحق مثل هذا اللقب، على الأعمال الشاقة المؤبدة خاصة الليلية منها، التي نؤديها حالنا حال الفنانات.
وبعد المواساة، تقترح القارئة عفاف عزام عليّ مشروعاً وتقول: «لا تزعل ولا تنقهر، احتفظ بالمتبقي من صحتك وعقلك للبيت والعيال، أو تعال نتشارك في فتح ملهى ليلي عسى يكون فاتحة خير للمال والمزاج العال، ومنها اقتصاد ومنها نعنشة، والا خلينا مع الأغلبية، يمكن نعيش ليوم التصحيح.. وأبقى قابلني».
ونشكر الأخت عفاف، لكنني لن أسمح لها بالانتصار علي، لأنني شخصياً لم أعد أحلم بيوم التصحيح، بل لم يعد الواحد منا يتمناه، فكل بلاوينا التي نعيشها هي من وراء التصحيح وتصحيح التصحيح أو عدم تصحيح التصحيح.
وبما أن زملاءنا يعقدون اليوم اجتماعاً تأسيسياً لجمعية الإعلاميين والصحافيين، بهدف رفع الظلم عنا وتوحيد كلمتنا وصفوفنا، والدفاع عن حقوقنا، فإن أول ما نطالبهم به هو العمل فوراً على تنظيم ساحتنا من السمكرية والمكوجية والبنشرجية وغيرهم من الذين تسللوا إلى المهنة، وأساءوا لها، وأفقدونا احترام الناس لنا، ثم إننا نطالبهم بالعمل على مساواة أجورنا مع أجور الفنانات والرقاصات، وعليها البدلات والعلاوات وكافة مزايا الفنانات، التي تجعلنا نحترم أنفسنا ونستغني عن سؤال الناس أو منافقتهم ومجاملتهم، إذا أردنا فعلاً أن يكون وسطنا أرفع من وسط الرقاصات ومقامنا أعلى.
وابقوا قابلوني.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.