عبد الحميد أحمد

نظام قراقوشي جديد

من أيام الاستعمار الإنجليزي للهند، تروى هذه الحكاية، فقد حاول مبشر إنجليزي إغراء مواطن هندي باعتناق المسيحية، وذلك بالحديث عن فردوس سماوي ينتظر المسيحيين المؤمنين، لكن المبشر عجز عن إقناع الهندي، فسأله لما يئس منه: ألا تحب الذهاب إلى الفردوس؟ فأجابه الهندي: لا. فقال المبشر: لماذا؟ وعندها رد عليه الهندي: لو صح ما تقول في وصف هذا الفردوس لما تأخر الإنجليز عن احتلاله إلى هذه الساعة! وهكذا فإن الهند وغيرها من الدول التي كانت مستعمرة، نالت حريتها واستقلالها، وكانت مطالب الاستقلال والتحرر وقتها منطقية ومشروعة، أما اليوم فإن مفهوم الاستقلال تغير، لأن كل مجموعة من البشر تجمعها قومية واحدة أو دين واحد، أو عادات أو حتى مزاج واحد، تطالب بالاستقلال والخروج من أحضان دولها. ويبدو أن مثل هذا الاستقلال، سيكون أو أنه بالفعل حالياً، هو الموضة السارية في سوق النظام العالمي الجديد، فكل طائفة وكل قوم وكل قرية، تريد الاستقلال بذاتها وتكوين دولة لها علم وعاصمة ونشيد وطني وعملة، وفوق هذا أن تكون عضواً في الأمم المتحدة.

فقد قرأنا مؤخراً عن قرية صغيرة مجهولة تدعى فيفكاني طالب سكانها بالاستقلال عن يوغسلافيا وتكون جمهورية مستقلة، على اعتبار أنهم مقدونيون، وقام هؤلاء السكان باطلاع جورج بوش وهيلموت كول وبوريس يلتسين، وغيرهم على قرارهم هذا وقالوا إنهم يريدون الاستقلال، لأنهم يرغبون بالمشاركة في حركة المد التي تشهدها يوغسلافيا حالياً، وانتهاز الفرصة لإنشاء دولة جديدة.

ويوغسلافيا لا تشهد حركة مد، بل حركة تقلص وتآكل، على عكس ما يرى سكان هذه القرية، حالها في ذلك حال غيرها من الدول التي شهدت وتشهد حالياً حركات تقلص، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الذي استقلت كافة جمهورياته، ولا تزال بعض هذه الجمهوريات مرشحة بالمزيد من حركات الاستقلال، وشرارة هذه الرغبة الاستقلالية تنتشر اليوم في أكثر من مكان في أوروبا نفسها، ومن يدري غداً، فربما تنتقل إلى غيرها من القارات كآسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية، ليكون عندنا بعد ذلك آلاف مؤلفة من الدول أعضاء في الأمم المتحدة. ولعل هذا ما جعل وزراء التربية والتعليم وشركات طباعة الأطالس في العالم، يؤجلون تغيير المناهج وكتب الجغرافيا والخرائط السياسية، لحين استقرار الشكل الجديد النهائي لخريطة الأرض، إذ لا يمكنهم طباعة كتب اليوم وإتلافها غداً لطباعة غيرها.

ثم إننا، وهذا ما يهمنا، لسنا بعيدين في الوطن العربي، عن هذه الفوضى الخرائطية المقبلة، فإضافة إلى ما يجري في الصومال وجيبوتي والسودان، عندنا مناطق أخرى مرشحة لإعادة الرسم والتشكيل، وعلى رأسها ما يتعلق بحدود إسرائيل معنا، أو حدودنا مع إسرائيل. ففي منطق يوسي بن أهارون، رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض للوفد السوري، وهو منطق غريب ولا شك، غرابة ما يجري في العالم كله من انقلاب وانفلات في المفاهيم والحقوق وفي الجغرافيا والتاريخ أيضاً، أن على سوريا الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في إسرائيل، ولما سأله موفق العلاف رئيس الوفد السوري ما هي هذه الأراضي، رد عليه بن أهارون أن القرار ٢٤٢ يذهب أبعد من عام ٦٧، وأن سوريا قامت باحتلال أراض فلسطينية عام ٤٨، يجب أن تنسحب منها. ومادام زعماء النظام العالمي الجديد، وافقوا وشجعوا من قبل على استقلال جمهوريات ودول صغيرة، وفي الطريق قرى ومدن، فإن ما نخشاه، هو أن يصدقوا إسرائيل أيضاً، إذا كان في تصديقهم لها مصالح لهم ولنظامهم الدولي، وسيكون علينا عندها أن ننسحب من بلداننا لأننا قمنا باحتلالها وانتزاعها من إسرائيل. وربما وصل الأمر عند هذا النظام القراقوشي الذي هو في حركة مد الآن ويبيح التدخل الدولي في شؤون الغير، أن يدعم استقلال زوجاتنا منا، على اعتبار أننا مستعمرون ومحتلون وننتهك حقوق الإنسان والمرأة بسيطرتنا على حريمنا وممارسة الديكتاتورية عليهن، لهذا أنصح، بأن نسارع بتفويت مثل هذه الفرصة على هذا النظام، بتطليق زوجاتنا من الآن بالثلاث، فننجو من عقوباته وقراراته ومحاصرته لنا، ويا دار ما دخلك شر.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.