يسأل الطالب عبدالله سعيد معلقاً على ما كتبناه من يومين أن كنا نحب المدرسة ونقبل عليها في أيامنا وبدا لي عبدالله من حديثه اللبق، أنه ليس من الطلبة إياهم، وحمدت الله أنه لايزال عندنا طلبة من نوعه، مؤدبون، ويقرأون ويناقشون، بعد أن حسبنا أن غالبية أمثال هؤلاء انقرضوا كالديناصورات فحق له علينا أن نجيبه.
نعم يا عبدالله، كنا نحب المدرسة، ونجد فيها ما يسرنا، ومن لم تعجبه وركب رأسه وتعنتر، أو حرن كالحمار عند الصباح عن الذهاب إلى المدرسة، كان أبوه يحمله حملاً أو يقوده من أذنيه ليسلمه إلى المدرس، لكي يعرف أن وراءه مسؤولاً، وأن لا خيار آخر أمامه غير العلم والدراسة.
غير أننا لا نريد من طلبتنا أن يذهبوا إلى المدرسة مرغمين كارهين، بل أن يذهبوا إليها بتلقائية وشغف وحب، وكان عندنا من الأسباب والدوافع ما يكفي للذهاب إلى المدرسة دون إكراه من أولياء أمورنا، الذين نشك اليوم في وجود الكثير من أمثالهم.
فقد كان الطالب منا يجد في مدرسته أكثر من متعة، لا يجدها خارج أسوار المدرسة، تبدأ هذه المتعة من الحصة وكرة القدم ودرس الرسم والموسيقى وحتى في الثياب المدرسية الموحدة، وغيرها من الأسباب المغرية، التي لم تعد كذلك هذه الأيام، لأن ما يوجد خارجها أكثر إغراءً للطلبة، بحكم الزمن المتغير ومقتنياته الحديثة التي أصبحت متوفرة وعلى قفا من يشيل، فلا الكرة اليوم، ولا أدوات الرسم ولا الملابس ولا غيرها من تلك الموجودة في المدارس أصبحت تشكل عنصر جذب واهتمام لطلبة هذه الأيام.
وعلى سبيل المثال فإن كرة القدم، كانت تكفي بعضنا سبباً لحرصه على الذهاب إلى المدرسة، أيام لم يكن في مقدورنا شراء كرة نلعب بها في الحارة، وكان بعضنا يلجأ لجمع قصاصات علب بعض السلع للحصول على هدية عبارة عن كرة قدم من وكيل تلك السلعة الذي يروج لها بهذا الأسلوب. حتى الملابس، البنطلون الرمادي والقميص الأبيض، وأحذية الرياضة والأحذية الأخرى العادية التي تشبه أحذية العسكريين، كانت من إغراءات المدرسة، وما زلنا نتذكر كيف تغمرنا الفرحة ونحن نخوض في أكوام هذه الملابس التي تجلب في صناديق وتتم بعثرتها لكي يبحث كل منا عن قياساته التي تناسبه، ثم تطورت هذه العملية بعد سنوات من تلك الطريقة في اختيار ملابسنا، إلى أن صار يمر علينا فريق من الخياطين لأخذ مقاساتنا تمهيداً لخياطة هذه الملابس، وجلبها بعد ذلك جاهزة كل حسب مقاساته.
وعلى ذلك قس فرحتنا بأدوات الرسم والصلصال والكراسات والموسيقى، إضافة بالطبع إلى الحصص نفسها، حيث المدرس يكسب ودنا بلطفه وبهيبته وصداقاته لنا في الوقت نفسه، فكنا نحرص على عدم الغياب لا خوفاً منه، بل حرصاً على رضاه.
ثم لا ننسى النشاطات العامرة في المدرسة، حيث تتشكل فرق من الفصول للمباريات والمنافسات الثقافية والرياضية، وامتدت هذه لتكون منافسات بين مدرسة وأخرى، ونضيف عليها نشاط الأشبال والكشافة، ونشاطات الزيارات وغيرها، من تلك التي كانت مثار اهتمامنا وحبنا.
ولأن الزمن تغير بسرعة، ولم تتغير معه المدرسة كما يجب، فإنه لا الكرة ولا الرسم ولا غيرها صار مغرياً لطلبة هذه الأيام، فالواحد منهم بدل الكرة يشتري ألفاً، وبدل البنطلون يقتني آخر موديلات الموضة، وصار طالب اليوم يجد ما يغريه أكثر خارج أسوار المدرسة، التي تحولت للأسف إلى ساحة متخلفة مقارنة بما هو عليه واقع المجتمع، الاستهلاكي تحديداً.
وتلك حقيقة علينا الاعتراف بها، وعلى المعنيين بشؤون التربية والتعليم النظر إليها وأخذها في الاعتبار، مع عدم إعفاء الطلبة أنفسهم، الذين جرفهم تيار الاستهلاك ووفرة كل شيء بين أيديهم، كما جرف المجتمع كله، من مسؤولية أنهم طلبة قبل كل شيء، عليهم واجب التعلم والحرص على العلم، وعلينا واجب ترغيبهم فيه لا إكراههم عليه.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.