كان الروس، أيام سطوة الدولة السوفييتية وحكم الحزب الواحد، يتداولون سراً النكات، ومنها أن مدير أحد المصانع، وهو لابد عضو بارز في الحزب، هاتف رئيس العمال قائلاً له: لا تنسى أنني في الخامس عشر من الشهر الجاري وفي تمام الساعة العاشرة صباحاً سأقوم بزيارة مفاجئة للمصنع في مهمة تفتيشية خاطفة.
وكان كل شيء يبدو في تلك الدولة العظمى سابقاً على ما يرام والإنتاج عال العال، والعمل على قدم وساق والضبط والربط على أشده، ولما انهارت الدولة انكشف المستور. وعرفنا أن الروس كانوا يأكلون بعقلنا حلاوة، وهم يتحدثون عن العمل والإنتاج والانضباط الإداري، حتى صاروا اليوم يرسلون موظفيهم وإدارييهم ودبلوماسييهم ورجال أعمالهم الجدد، إلى الغرب لتعليمهم الانضباط وأصول العمل واحترامه، وغيرها من الخبرات المطلوبة، التي لم تكن تخطر لهم على بال، إلا في لحظات التفتيش المفاجئة على الطريقة الروسية، والعربية طبعاً. وقرأنا مؤخراً، كيف أن موظفي أحد المصارف الإنجليزية الكبيرة، وجدوا مادة خصبة للضحك، حيث تحول هؤلاء إلى تدريب عدد من الروس على فن استخدام التليفون واستثمار الوقت فيما هم جاءوا أصلاً للتدريب على أصول النظام المصرفي. ولاحظ الإنجليز أن المتدربين الروس استهلكوا في أول يومين من الدورة 25 كيلوجراماً من الموز، وهي كمية تكفي عند الإنجليز لتموين كافتيريا المصرف لأسبوعين أو لتقديم وجبتين كاملتين لفيل هندي ولو كان هؤلاء الروس المتدربون عمالاً، من الذين صاروا على الحديدة في دولة العمال، لما أثار ذلك استغراب الإنجليز غير أن هؤلاء من كبار مديري وموظفي البنوك الروسية، الذين وجدوا في الموز ما يسلي ويحلي في أوقات الدوام، وهي فرصة، وبلا دورة وبلا وجع دماغ. الأهم أن إدارة البنك سجلت على هؤلاء أن الواحد منهم يتحدث على الهاتف أثناء ساعات الدوام لفترات طويلة ما يؤدي إلى شغل الخطوط الهاتفية للمصرف ويصبح اتصال العملاء بالبنك أمراً متعذراً، ثم إنهم يتأخرون في مواعيد الدوام ومواعيد المحاضرات، إضافة إلى قيام بعضهم بدق المسامير على جدران المكاتب لتعليق صور زوجاتهم وأولادهم، وكل ذلك جعل المدربين المصرفيين الإنجليز يقومون بتغيير برنامج الدورة برمته، وقصره على تعليم الروس استخدام الهاتف واحترام مواعيد العمل والمحافظة على بهاء وهيبة المكاتب، وما إلى ذلك من المتطلبات الأولية للعمل وللإدارة. غير أن الإنجليز للأمانة، لم يسجلوا على أي روسي متدرب أنه يردد: فوت علينا بكرة، المدير غير موجود، الأوراق ناقصة، ما يجعل مثل هذه الخبرة العملية في التعامل مع الناس امتيازاً خاصاً وماركة مسجلة لموظفينا وحدهم من دون موظفي العالم، باستثناء إخوانهم وأشقائهم العرب الذين رضعوا وإياهم من قزازة البيروقراطية، وهذا تفوق فات على الروس معرفته، وإلا لخربت بلادهم على خرابها الحالي أضعاف أضعاف. لذلك نحمد الله أن أحداً من موظفي وزاراتنا لم يكن منتدباً لمثل تلك الدورة (وربما إننا لا نبعثهم لدورات تدريبية خوفاً من الفضائح) وإلا لصار هذا فطحلاً على الروس الغلابة وهو يعلمهم فن التطنيش من مجاميعه، ويعطيهم دروساً عملية معتبرة في أصول التطفيش ويزيدهم من خبراته الوظيفية في الزوغان والتوهان من المكتب والإفلات من المراجعين من خلق الله على بابه. نقول ذلك، لأنه لا يمكن لروسي ولا لمخلوق آخر حتى لو كان من بلاد الماو ماو أن يتغلب على جماعتنا في فن إشغال الهاتف خلال الدوام الرسمي وغير الرسمي، في المكتب أو في البيت أو في السيارة، فأصول وقواعد استخدام الهاتف في المغازلة والحديث مع الأصدقاء والشلة، وتسيير الأعمال الخاصة، وحتى فيما لا يلزم، لا يجيده أحد مثلما يجيده موظفونا الأساتذة والشطار في هذا الفن الحديث، ولن نضيف على ذلك فنونهم الراقية في الانضباط الإداري حتى إن الواحد من شدة حبه لعمله واحترامه لدوامه، لا يقبل بأي حال أن يأتي قبل الدوام إلا متأخراً بساعة، ولا يقبل الانصراف إلا قبل انتهاء الدوام بساعة، وخلسة طبعاً من المراجعين على بابه، والذين يغافلهم ويخرج من بينهم كالشعرة من العجين، والباقي تتكفل به السكرتيرة أو السكرتير، أو أي موظف زميل على طريقة شيلني اليوم وأشيك بكرة. ونختم بالشكر والحمد لله على وفرة الموز في بلادنا، وإلا كنا سنرى المراجعين يتزحلقون من طولهم في ممرات الوزارات على قشر الموز، فتنكسر سيقانهم ويتخلص الموظفون منهم ومن معاملاتهم ومن اليوم الأسود الذي يرونهم يتكدسون فيه على أبوابهم، كان الله في عون المراجعين، لا الموظفين الذين يستحق كل واحد فيهم لقب أيوب.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.