نثقل على القراء مرة بعد أخرى، بالحديث عن الانتخابات الأمريكية ولهم أن يعذرونا في ذلك، فهذه الانتخابات تفرضها علينا الوكالات وأجهزة الإعلام الأخرى فرضاً لا مفر منه، وهي تنقل لنا دقيقة بدقيقة آخر أخبارها وفضائحها وشتائمها وردحها المتبادل فيما بين المتنافسين عليها، ومع أن فينا من ليس له فيها ناقة ولا جمل، ولا هامبورجر ولا كاديلاك، إلا أن هذه الوكالات تتعامل معنا وكأن الانتخابات تجري لاختيار رئيس لنا، لا رئيس للأمريكيين وحدهم، مدفوعة بالطبع بمقولة القوة الوحيدة العظمى الباقية في العالم، والتي مازالت تملك مفاتيح إدارته وتدويره. ونحمد الله أن المتنافسين لا يذكرون في مساجلاتهم شيئاً عن النظام العالمي الجديد، وإلا لأصبنا بالحساسية، على ما نحن فيه وعليه من علل اقتصادية وسياسية ونفسية بسبب هذا النظام الذي لم يعرف أحد بعد ذيله من رأسه، مما يخفف علينا متابعة ما يدور بينهم من نقاش يشبه المعارض في حلبات الملاكمة. وأمس انتهت آخر مناظرة تلفزيونية بين المرشحين، ليبدأ من الآن الشوط الأخير في سباق الجري السريع إلى البيت الأبيض، فأتحفتنا الوكالات بتقاريرها عن هذه المناظرة، وما يتبعها من استطلاعات الرأي العام، بلغة الملاكمة والمصارعة، فعند الوكالات أن بوش لم ينجح في توجيه الضربة القاضية لمنافسه الديمقراطي، وإن كان سجل بعض النقاط عليه، وعندها أن كلينتون لا يزال يحصد النقاط لصالحه متفوقاً على بوش والمستقل بيرو، وهي تتوقع أن يفوز كلينتون بفارق النقاط، لا بالضربة القاضية، وأن يخسر بوش المعركة إلا إذا حقق معجزة قبيل توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، بحيث تغير من مراهنتهم الحالية لصالح الملاكم جورج بوش الهزيل النحيل. وندخل في موضوعنا لنقول إن كلينتون، وهو مرشح إسرائيل في هذه الانتخابات، بشرنا منذ أيام وأمس، أنه لن يقبل بقيام دولة فلسطينية، وإن المفاوضات حدها كامب ديفيد أو يجب أن تكون في إطارها، لا في أي إطار آخر، وأضاف ما هو أسوأ حين أعلن أن القدس يجب أن تبقى عاصمة أبدية لإسرائيل، واللي مش عاجبه يشرب من البحر… ونحن تعودنا أن نشرب من البحر من وراء السياسة الأمريكية، حتى لم يبق لدينا مكان لمزيد، غير أن كلينتون يقول ما يقوله، وغداً ربما يفعل ما يقول، ثمناً للصوت اليهودي، الذي يدعمه في معركته ضد المرشح الجمهوري، والرئيس الحالي، الذي استطاع من بين رؤساء أمريكا أن يقول لا لشامير، ولا للمستوطنات، ولا للقدس عاصمة لإسرائيل، وترك بعد ذلك كل شيء بما في ذلك القدس وغيرها من الأراضي المحتلة، لسير المفاوضات، ولذكاء المفاوضين وصبرهم وطول نفسهم، وفي ذلك ما يكفي من جرأة لرئيس أمريكي، عليه أن يدفع الآن ثمناً لتجرئه على إسرائيل. غير أن إسرائيل ترى في مثل تلك المواقف خيانة لها، وهي خونت جيمس بيكر وطالبته باعتذار مرة عن تصريحات له أمام المنظمة اليهودية «بناي بريث»، وعندها أن بيكر وبوش، وكل أمريكي آخر، هم مواطنون إسرائيليون فيما يتعلق بإسرائيل، وثمن الخيانة عندها أن تقف المؤسسات الأمريكية الإعلامية في وجه من يعارض إسرائيل، ولو كانت هذه المعارضة في صالح أمريكا نفسها، وربما هذا ما يفسر لنا استطلاعات الرأي خاصة التي تقوم بها مؤسسات صحافية وتلفزيونية تظهر تقدم المرشح الإسرائيلي على المرشح الأمريكي، لتقول للأمريكيين عامة، إن المعركة حسمت.
غير أن الأمريكيين لا تهمهم سوى جيوبهم، وكان يمكن للعرب أن يخاطبوهم عن طريق هذه الجيوب، بإظهار المدى الذي يمكن نفخ جيوب الأمريكيين فيما فاز مرشح متوازن ومعتدل، يعرف مصلحة أمريكا قبل غيرها، ويفهم الناخبين أن لدى أمريكا من المصالح عند العرب ما يفوق ما عند إسرائيل، التي تشكل عبئاً على الأمريكيين أنفسهم من دافعي الضرائب إلا أن العرب كالعادة، لا في العير ولا في النفير، كما يقول المثل، ورئيس أمريكا المقبل آخر ما يهمهم، مثلما لا يهمهم أي شيء آخر يجري في العالم، أو حتى في عقر دارهم. وفي الرابع أو الخامس من الشهر المقبل سنعرف ويعرف العالم، من هو رئيس أمريكا، هل الذي تريده وتروج له وسائل الإعلام الأمريكية وأجهزتها، أم ما يريده حقاً الناخب الأمريكي، الذي تهمه قبل أي شيء آخر دولاراته وجيوبه، ويا خبر اليوم بفلوس غداً ببلاش، مثل عربي شعبي يعني أن النوم حلو، وبلا وجع دماغ حتى لو أكلناها ضربة قاضية.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.