عبد الحميد أحمد

تكتيكات الموائد

كنت على وشك الكتابة عن الصومال، غير أنني تذكرت أن اليوم هو جمعة، يوم العزائم والولائم والموائد، ولا يجوز لياقة وأدباً سد الأنفس التي تنفتح شهيتها للطعام في مثل هذا اليوم المبارك، ثم إن الله يأمرنا بالحديث عن نعمه، وليس مثل هذا الطعام بأنواعه ووفرته نعمة عندنا ولله الحمد. فيوم الإجازة من العمل والهموم والمشاغل، مثل هذا اليوم، فرصة للقاء بالأقارب والأصدقاء والخلان، وكلما كان هناك مثل هذا اللقاء الحميم كلما حضرت الصواني والقدور والصحون والمواعين الضاحكة وفيها ما فيها من مأكولات دسمة وأخرى حلوة وثالثة حارة ورابعة باردة، تفتح شهية أية نفس مهما كانت مسدودة، ويعرف المغرمون بالطعام أهمية مثل هذه اللقاءات التي تتيح لهم الاستمتاع بالأكل وتعويض ما فاتهم خلال أيام الأسبوع الروتينية، وهؤلاء يعتمدون على تراث عريق من العادات والتقاليد المتعلقة بالأكل، لا يوجد مثيل لها عند الشعوب الأخرى كما يوجد في التراث العربي.

فمقابل الطفيلي الشهير، عندنا حفيده البطيئي، الذي يعمل بالنصف الأول فقط من مثلنا الشعبي: كل أكل الجمال وقم قبل الرجال، فهذا مثل جهنم، كلما أطعمتها قالت هل من مزيد. وعندنا في الجريدة زملاء خبراء في تكتيكات الأكل والموائد، فأحدهم في التحرير ينصحنا كلما أكرمنا الله بخروف محشي بالزر والمكسرات والبهارات، أو حتى بفرخة ضامرة، بأهمية الضربة الأولى، التي تشبه المبادأة في الحروب والمعارك، حيث تذهل الأعداء الآخرين من أصحاب البطون الكبيرة، لأنها تكون قوية وصاعقة وتستحوذ على أهم ما في الخروف أو الفرخة في غمضة عين، ولا تترك للآخرين، إلا بقايا المعركة التي تكون قد حسمت في دقائق من عظام وجلد ولحم يابس، يتسلى به قليلو الخبرة مثل الفقير لله كاتب هذه الزاوية. وزميل آخر في التصحيح يؤكد على أهمية الموقع الذي يجب أن يتخذه أحدنا على المائدة، وعنده أن الموقع يجب أن يكون استراتيجياً يسمح بالإشراف ورؤية كامل ما هو موجود على المائدة، ويسمح بسرعة الحركة والمرونة والهجوم والتراجع وسحب اليد بسهولة من بين عشرات الأذرع بحيث لا تحتك بها فتسقط منها الغنيمة في منتصف الطريق. ومثل هذه النصائح هناك الكثير، من التي تستمد أصالتها من تقاليد عريقة في فن الهبر على الموائد، منها هذه الأبيات التي يوصي بها أحد الأكولين من تراثنا العريق ابنه الصغير:

لا تجزعن من القريب

            ولا من الرجل البعيد

وادخل كأنك طابخ

            بيدك مغرفة الثريد

متدلياً فوق الطعام

            تدني البازي الصيود

لتلف ما فوق الموائد

            كلها لف الفهود

واطرح حياءك انما

            وجه المطفل من حديد

حتى إذا جاء الطعام

            ضربت فيه بالشديد

ومثل هؤلاء الزملاء، إضافة لما يتمتعون به من حنكة طعامية وخبرات قتالية على الموائد، عندهم ميزة أخرى فهم يشمون الأكل بحاسة فريدة قبل مجيئه بيومين، مثلما قال أحدهم مرة:

لو طبخت قدر بمطمورة

            أو في ذرى قصر باقصى الثغور

وكنت بالصين لوافيتها

            يا عالم الغيب بما في القدور

وما دمنا في سيرة مثل هؤلاء اليوم فإننا نختم بهذه الأبيات التي تصف الأكول خير وصف سمعناه:

يلين الطحين على ضرسه

            ولو كان من صخرة جامدة

ويأكل زاد الورى كله

            ولكنها أكلة واحدة

فلو عاينته جحيم الاله

            لخرت لمعدته ساجدة

وربما نعود في يوم آخر لمزيد من لطائف هؤلاء ونصائحهم أيضاً، بحيث يستفيد منها قليلو المعرفة والخبرة، في فنون الأكل وأعاجيبه، غير أننا نتمنى اليوم لأحدكم إذا ما حظي بمائدة عامرة أكرمه الله بها. أن يضرب بيمينه وشماله معاً ضرب الأعمى، فتلك القاعدة الأولى والذهبية في معركة الأكل، وربما يسعده في مهمته الأولى هذه أن يتصور نفسه عائداً للتو من الصومال، وصحتين وعافية للجميع.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.