عبد الحميد أحمد

عقاب ياباني أو أمريكي

الموظف الياباني، الذي يعبد العمل، ويحترمه وينضبط فيه، لا يطيق أن يتعرض إلى معاملة سيئة من رئيسه في العمل، ولا يتحمل تعرضه لأي إهانة أو إنذار أو توبيخ، وإذا حصل مثل ذلك الأمر، تدهمه السويداء وتصيبه الكآبة والحزن، وكل تلك من الأمور التي تستحق الانتحار عند الياباني، باعتباره شجاعة وتقليداً متوارثاً.

وليس هناك من مجال للمقارنة بالطبع بين الموظف الياباني والموظف عندنا، الذي لا تهمه لا إهانة ولا إنذار ولا حتى خصم من الراتب، طالما أنه لن يفصل من عمله، لذلك فقد تحصن موظفونا ضد هذه المسائل التي يعاني منها الموظف الياباني، بالطناش واللامبالاة والمزيد من الغياب وقلة الانضباط في العمل، وحوّل هذه اللامبالاة إلى شجاعة ترفع الرأس بين زملائه ورؤسائه على السواء.

غير أننا نترك هؤلاء لحين، ونعود إلى الياباني، الذي ابتكر له الأطباء النفسيون مؤخراً وسيلة لعلاجه من سويدائه، وذلك بوضعه في غرفة مغلقة لفترات معينة، لا يسمع فيها سوى الضحك والقهقهات، التي سرعان ما تقضي على كآبته وتعيده إلى توازنه، وتجعله ينسى معاملة رؤسائه له، فيصير يضحك ويكركر على الفاضي والمليان، كأنه تعاطى حشيشة كيف، على حسب ما نرى في الأفلام العربية.

وسابقاً سمعنا عن حالات عديدة للعلاج بالضحك، وبالموسيقى أيضاً، لكننا اليوم نسمع لأول مرة عن العقاب بالموسيقى، فأحد أساتذة إحدى الكليات بالولايات المتحدة ابتكر لمعاقبة تلاميذه المشاغبين وغير المنضبطين طريقة غريبة، وذلك بحجزهم لساعات في غرفة مغلقة وإجبارهم على سماع أغاني المطرب فرانك سيناترا، الذي يمقتون أغانيه القديمة، ويفضلون عليها أغاني مايكل جاكسون ومادونا الحديثة الراقصة والفاسقة. وبما أن الخبر يقول إن طريقة هذا الأستاذ نجحت في عقاب الطلبة المشاغبين وإعادة الهدوء إلى الفصل الدراسي، فإنه سيكون من المناسب أن تفكر وزارة التربية عندنا في استيراد هذا الأسلوب من الخارج، مثلما نحن شطار في استيراد كل شيء. فنعاقب طلبتنا المشاغبين، الذين بيضوا شعر المسؤولين بالتربية ومعهم شعر أولياء أمورهم، بإجبارهم على سماع أغنيات فريد الأطرش وأم كلثوم وعبد الوهاب، (مع أن فريد الأطرش وحده يكفي) وغيره من المطربين الذين لا يحب هؤلاء الطلبة أغنياتهم قدر حبهم واستمتاعهم بأغنيات علي حميدة وعمرو دياب وحميد الشاعري وحسن الأسمر وكتكوت الأمير من التي نرغم على سماعها تصدح عالياً في سياراتهم، فلا نعرف إن كنا نسمع غناء أو حفلات زار وتحضير أرواح، لعل وعسى أن ينجح المرحوم فريد الأطرش في عقابهم من حيث فشلنا نحن.

أما الموظفون، من نوع الذي سأله ابنه التلميذ لكي يساعده في حل واجباته المنزلية، فرد عليه بسرعة: تعال بكرة، فربما تنجح معهم الطريقة اليابانية في العلاج والعقاب، مع بعض التحوير عليها، كأن نضع الموظف البيروقراطي الذي عذب المراجعين، ويجعلهم في لحظة بلا صواب ولا عقل، في غرفة مظلمة، لا يسمع فيها إلا أصوات مراجعين من خلال كاسيت وهم يرددون: المعاملة الله يخليك، يا ولدي خلص لي هذه الأوراق، أمس قلت تعال باكر، الأوراق جاهزة ولا ينقصها إلا توقيعك.. وهكذا، حتى يتأدب ويصرخ طالباً النجدة وإخراجه من الغرفة فوراً، مع إعلانه التوبة النهائية والقيام بواجبه كاملاً نحو عباد الله من المراجعين.

ونترك الهذر إلى الجد، فنقول إن موظفينا الذين نهاجمهم بين حين وآخر، ولنا حق في ذلك، يبقى لهم حق أيضاً في تعديل أوضاعهم الوظيفية والمعيشية لكي ترتفع إنتاجيتهم وانضباطهم في العمل، ويكفي أن كثيراً منهم باقٍ على درجته كأبي الهول منذ ما يزيد على عشر سنوات، ويكفي أن الرواتب لم يطرأ عليها أي تغيير منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً، فيما الغلاء والتضخم زاد أضعافاً أضعافاً، مع ضرورة أن يواكب ذلك تعديل في النظام الإداري أيضاً، يقلل من الروتين ويقر مبدأ الثواب والعقاب، لكي يأخذ كل ذي حق حقه، ولكي لا يبقى للموظف أي عذر في التقصير أو الإهمال أو تعطيل المعاملات. أما عن سوء الأوضاع الحالية للموظفين فيكفي أن نعرف أن ما يزيد على 90٪ من المستدينين من البنوك هم فئة الموظفين، الذين يمسكون راتبهم من هنا ليتولى فأر البنك قضمه هناك، وموظف هذه حاله لا يمكن أن ننتظر منه أكثر مما هو عليه من تسيب وعدم انضباط واحترام للعمل، حتى لو عالجناه على الطريقة اليابانية أو عاقبناه على الطريقة الأمريكية.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.