عبد الحميد أحمد

المال السائب

لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، إلا نحن فقد لدغنا من جحر واحد مرات ومرات، ومازلنا نلدغ حتى الساعة. ونحن نتحدث اليوم عن جرائم الاحتيال والنصب، التي يستطيع عبرها أي مغامر امتلك أدوات الاحتيال ووسائله من أن يلطش ملايين ويفر هارباً في غمضة عين. وتبدأ الحكاية عادة بمجيء هذا المغامر إلى البلاد على أنه تاجر ورجل أعمال، فيفتح محلاً أو مكتباً ويستخرج رخصة تجارية، بكفالة مواطن طبعاً، عادة ما يكون الطرف النائم على ودنه أو الشريك «المغفي» كما يطلق عليه، وهو مثل الزوج المخدوع آخر من يعلم.

ثم يكمل هذا النصاب العدة: أناقة وشياكة ومكتب فخم بسكرتيرة جميلة، حقيبة سامسونايت، لسان معسول علاقات عامة لا حدود لها يحوز عبرها على ثقة واطمئنان المتعاملين معه، ودعاية ضخمة تصوره على أنه من أساطير رجال الأعمال الناجحين العصاميين الذين شقوا طريقهم إلى النجاح في سنوات بعرقهم وجهدهم، ويظل الجانب الآخر خافياً عن الأنظار إلى حين يقع الفأس في الرأس، فينكشف المستور فإذا به نصاب ابن نصاب وستين حرامي.

وقرأنا الأسبوع الماضي عن آسيوي احتال على بنك وطني، حين طلب منه تمويل شراء سلع مستوردة بحوالي ستة ملايين درهم وحين تم تحويل المبلغ لحسابه طار واختفى، ولما جاءت البضاعة اكتشف البنك أنها لا تزيد قيمتها على 300 ألف دهم، وكشف محاسب متورط مع هذا النصاب، أنه سبق أن احتال على بنوك أخرى بالطريقة نفسها وحمل الأموال معه وغادر قبل انكشاف أمره.

ولو كان مواطن هو الذي تقدم بطلب التمويل بالمبلغ الضخم المذكور سابقاً، لما وافق عليه البنك، لأن مواطنين يطلبون سلفيات بسيطة لحاجتهم الماسة تذلهم بعض البنوك، خاصة الوطنية بطلبات وشروط منها تحويل الراتب أو ضمان نهاية الخدمة، إذا كان موظفاً أو وجود كفيل، عدا طبعاً عن نسبة الفائدة العالية، وإذا طلب هذا المواطن مبلغاً أكبر لبناء بيت مثلاً أو حتى لعمل تجاري جديد، فإن البنك يطالبه بضمانات أعلى كرهن منزله مثلاً أو ممتلكات أخرى، فيما الأجنبي النصاب يأخذها على البارد لأنه الأشطر في الضحك على الذقون.

ومؤخراً تابعنا ندوة مهمة، هي الأولى من نوعها تطرقت إلى الجرائم الاقتصادية التي مازلنا نفتقد إلى قوانين لمحاربتها، كما هو الحال في دول أخرى، وهذه الجرائم تبدأ من الرشوة والاختلاس واستغلال المال العام، مروراً بالنصب والاحتيال وحتى التلاعب وغسل أموال المخدرات وغيرها من أموال تكتسب بطرق غير مشروعة، ما يدعونا إلى المطالبة بأخذها بعين الاعتبار ووضع توصياتها موضع التنفيذ وتشكيل الأجهزة المختصة بملاحقة مثل هذه الجرائم.

وفي بلادنا نرى الكثير من أوجه الثراء السريع والمفاجئ الذي يصيب البعض، فينفخهم ويرفعهم في سنوات إلى مصاف التجار ورجال الأعمال الآخرين المعروفين، والذين بنوا ثرواتهم عبر سنوات طويلة من العمل والجهد، ولابد أن مثل هذا الثراء السريع وراءه ما وراءه من أوجه مخالفة وغير قانونية، كاستغلال المنصب أو تقاضي الرشوة، التي يسمونها من باب الأدب واللياقة العمولة، أو المكافأة أو وراءها طرق أخرى من الاحتيال والتلاعب.. وصولاً إلى ما هو أخطر من ذلك نشاطات مشبوهة وخطرة.

وعادة ما تبدأ هذه الجرائم بسيطة، ثم تأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وخطراً باستشرائها في جسم المجتمع ومؤسساته، ما دعا دولاً مثل السعودية إلى البدء في محاربتها حين سنت مؤخراً قوانين رادعة وعلى رأسها عقوبات للرشوة.

ومثل الآسيوي الذي نصب على البنك الوطني سمعنا عن كثيرين آخرين من قبل، وسنسمع عن آخرين في المستقبل أيضاً، وسنرى غيرهم ممن يثرون بلا وجه حق ما لم نسارع إلى محاربة هذه الجرائم الاقتصادية بالقوانين والملاحقة والردع الصارم، فالمال السائب يعلم السرقة، ونحن لا نريد لمالنا أن يكون سائباً، ولا لبلادنا أن تكون وكالة من غير بواب، وإلا فإننا سنلدغ من الجحر ذاته ألف مرة، لا مرة ومرتين، وعلى عينك يا تاجر.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.