نتحدث اليوم عن مشروع السياسة التعليمية التي تشكلت مؤخراً لجنة لوضعها تبدأ عملها الأول الأحد المقبل، إلا أننا نبدأ بنا، أي بالإعلاميين والصحافيين كمؤسسات وأجهزة، ونقول إن كلاً منا داير على حل شعره وكأننا في حارة كل من ايده اله طيبة الذكر في مسلسل غوار الطوشة، شعارنا: شيل الله يبارك لك.
نشرح للقارئ وهو لا يحتاج لشرح لأنه يرى ويسمع ويقرأ ما نعنيه تحديداً، فهو يرى محطة تلفزيون عندها حساسية من مشهد قبلة في فيلم، فتسارع إلى إعدامه ربما بمقص الرقيب، ثم يشاهد الفيلم نفسه في محطة أخرى كاملاً غير منقوص ولا منتوف ولا شعرة منه، ثم إنه يقرأ خبراً في صحيفة عن موضوع سياسي ساخن، لا يجده ولا حتى في سلة مهملات صحيفة أخرى، كما أنه يسمع تحليلاً في إذاعة يغسل عملية السلام (يبيضها وينعمها ويجعلها رقيقة مثل التايد)، ويسمعه في أخرى تغسله غسلاً بالعصا والكرباج هذه المرة، والمقصود مهاجمتها والتقليل من أهميتها وجدواها. وبما أن مثل هذا المواطن يدوخ رأسه، فإنه يذهب إلى لندن لسماع أخبارها، وإلى الدش الفضائي لمعرفة ما يدور حوله لكي يقرر بعدها بنفسه الصح من الخطأ. وندخل في موضوعنا فنقول، إن ذلك يحدث ليس لأننا دايرين على حل شعرنا بمزاجنا، بل لأننا نجتهد فنخطئ ونصيب، ولا نجد مرجعية نلجأ إليها لكي نحدد رؤيتنا وهدفنا وطريقة عملنا ومنهجنا في المهنة، لأنه ليس عندنا سياسة إعلامية تسند ظهرنا.
ومثلنا يفعل آخرون في المجتمع، مثل التجار والاقتصاديين، الذين لا يجدون سياسة اقتصادية واضحة تحكم نشاطهم ومشاريعهم حسبما تقتضيه مصلحة البلاد أولاً والمواطنين ثانياً، ومثلهم أيضاً فعلوا ويفعل التربويون ومسؤولو التربية، من الذين رأينا على أيديهم عملية التعليم تسير شرقاً تارة، ثم تعود شمالاً، وهكذا حتى تلف الجهات الأربع صاعدة مرة، نازلة مرات.
وكان لغياب السياسة التعليمية لدينا آثار سيئة على العملية التعليمية، وهي كانت على الدوام عقبة رئيسية تواجه التعليم، وإحدى المشكلات الجوهرية التي جعلت العملية التعليمية تتخبط صعوداً وهبوطاً، مداً وجزراً، بين اجتهادات شخصية ورؤى فردية لا تحكمها مرجعية معينة، تستند عليها وتستمد منها منهجها وفكرها وأهدافها في مسار التعليم برمته.
ومع أن في مجتمعنا ثمة ثوابت ومرتكزات أساسية، إلا أن عملية التعليم كانت باستمرار عرضة للتغيرات الحادة التي يمليها شخص الوزير وجهازه الإداري، حتى جار بالشكوى المدرسون والطلبة وأولياء الأمور ثم بقية شرائح المجتمع التي لم تعرف في يوم من الأيام هدفاً من وراء تعليم الطلبة، سوى الحصول على الشهادات أياً كان مستواها ومستوى حامليها، حتى تدنى هذا المستوى مقارنة بغيرنا من الدول، في ظل ما نشهده من تطورات معرفية وحضارية مذهلة تدهمنا في عقر دارنا فيما نحن عنها في واد سحيق.
لذلك فإن خبر تشكيل لجنة وضع مشروع السياسة التعليمية في الدولة، هو خبر سار بلا شك لأنه يسد فراغاً كبيراً عندنا، والترحيب بعمل اللجنة التي من المفترض أن تنهي عملها وتضع المشروع أمام مجلس الوزراء بعد عام واحد من الآن يدعونا للمطالبة بإنجاز بقية ما ينقصنا من سياسات، على رأسها السياسة الإعلامية والاقتصادية والثقافية وغيرها من السياسات الفرعية التي تستمد عناصرها من ثوابت نرتئيها أجمعين، بحيث لا تسمح بالتجاوز والفوضى والاجتهادات الفردية التي يكون فيها مجال الخطأ واسعاً، ويكون ضحيتها الأكبر، هو المجتمع ومستقبله ومستقبل أفراده. ويبقى من المناسب أن تطرح مثل هذه المشروعات الحيوية للرأي العام ومشاركة أكبر ما يمكن من شرائح وفئات المجتمع في صياغتها، قبل إقرارها بصيغتها النهائية، غير أن المأمول أكثر، هو أن يتبع إنجاز السياسة التعليمية إنجاز غيرها، بحيث لا يبقى فينا أحد في حيص بيص، فيلجأ إلى ضرب الودع وقراءة الفنجان، وأسلوب صابت ما صابت.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.