لا يمنع الأفكار من أن تكون عظيمة وبناءة، كوننا لا نلتفت إليها، أو كونها أتت من مناطق بعيدة، لا من المراكز والقلب.
فقد لفت نظري ما أقدمت عليه الأسبوع الماضي «مدرسة مزيد بالعين» حين كرمت أولياء أمور الطلبة المتفوقين فيها، فيما العادة جرت أن يتم تكريم المتفوقين وحدهم، والظاهرين في مقدمة المسرح، بينما يتم نسيان وتجاهل من هم خلف الكواليس. وبدعة مدرسة مزيد الحميدة، التي بذرت فكرة عظيمة، هي أنها التفتت لهؤلاء ممن يسند إليهم نجاح أي طالب وتفوقه، حيث التفوق والنجاح في المدرسة والعمل والحياة إجمالاً، لا يصنعه شخص بمفرده، مهما كان هذا خارق القدرات، ولا يهم بعد ذلك الصورة التي تم بها تكريم صانعي الناجحين والمتفوقين، سواء منحوا مالاً كمكافأة أم مجرد ورقة عبارة عن شهادة تقدير، لها معناها الكبير.
غير أن معنى التكريم كان سيكتمل لو أن المدرسة منحت الأمهات أيضاً شهادة تقدير، إلا أن هؤلاء حيطة مايلة دائماً وضحية النسيان حيث يبخسن حقوقهن، ولا يلتفت لدورهن مع أنهن الأساس ومصدر كل تفوق أو كل فشل وسقوط.
ونقول إن تكريم آباء المتفوقين فيه لفتة ومغزى، حيث نشكو هذه الأيام من انعدام وجود ولي الأمر وانقراضه مثل بعض الكائنات النادرة، ويعرف المسؤولون بالتربية والمدرسون، أن عدد الذين يتابعون أولادهم في المدارس أو يزورونهم ويهتمون بشؤونهم التعليمية لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في كل مدرسة، حيث تحول الآباء عندنا من مربين ومسؤولين عن أولادهم، إلى مجرد ممولين في آخر كل شهر، وإلى مجرد نزلاء في البيوت مثلهم مثل نزلاء الفنادق الذين لا يؤوبون إلى غرفهم إلا وقت المنامة والراحة، وبعضهم لا يؤوب إلا لماما، عليهم الرحمة ومنه العوض فيهم.
ونترك مدرسة مزيد التي تستحق منا الشكر والتقدير على تلك اللفتة الناجحة إلى جهات أخرى في المجتمع، من مؤسسات حكومية ورسمية وأهلية لتكرس مثل هذه الفكرة في نشاطها ودورها، لتكريم من يستحق وتكريم من يقف وراء النجاح، أي نجاح.
ويمكن أن نرصد حالات كثيرة تستحق أن تكرّم:
- إضافة للطالب المتفوق وذويه، يكرّم المدرس الذي يحرز في صفه نسبة نجاح عالية، وتكرّم المدرسة التي يحوز طلبتها على نسبة أعلى ضمن المتفوقين، وكذلك المعلمة التي لا تحصل على إجازة وضع مرتين في العام الدراسي.
- الموظف الذي لا تسجل عليه حالة غياب واحدة طوال العام، ولا حالة تخلف عن الدوام أو زوغان منه!
- سائق التاكسي الذي يظل ملفه في المرور نظيفاً من النقاط السوداء، وسيارته نظيفة كذلك من الأوساخ والروائح.
- ربة البيت التي استغنت عن الخدامة والمربية، وقامت بعملها في بيتها منفردة بلا تذمر ولا شكوى، وفي الوقت نفسه احتفظت برونقها من العطب بحيث لا يهرب منها الزوج.
- المطرب الذي غنى طوال العام أغاني لم تزعج أسماع الناس ولم تسبب لهم القرف ووجع الرأس.
- الأم التي وفرت من المصروف الشهري وادخرته لأولادها، ولم تنفق منه على فساتين وأحذية وصالونات حلاقة.
- لاعب الكرة الذي لم يشتم حكماً ولا رفس لاعباً ولا صفع مدرباً خلال الموسم الكروي، ولا طالب بزيادة مكافآته عن المباريات.
ويمكن أن نعدد الكثير مما ينقصنا، لكي نجد من يستحق التكريم بسهولة، غير أننا نكتفي بما ذكرنا كأمثلة، ونذكر أن العقاب وحده ليس طريقاً صحيحاً على الدوام، للإصلاح والتقويم، بل المكافأة أيضاً وخلق القدوة والمثال، مما لم نعد نجد الكثير منه هذه الأيام. ولا في الأحلام.