سينضم جورج بوش إذن، بعد شهرين تقريباً إلى نادي كبار السياسيين والقادة العالميين العاطلين عن العمل، وهو كان قبل عام متصدراً، إثر انتصاراته الخارجية وانفراد بلاده بالقوة الوحيدة في العالم بعد أن هر الاتحاد السوفييتي وسقط. ولبوش أصدقاء في هذا النادي، منهم مارجريت تاتشر وميخائيل جورباتشوف، من الذين قادهم بوش في تحالف دولي فريد ضد العدوان العراقي على الكويت، فيتحول بعد الآن مثلهم إلى كتابة المذكرات، وهي مهنة المتقاعدين سياسياً المفضلة، أو إلى تأسيس مركز للبحوث والدراسات والاستشارات، أو يصبح مستشاراً لشركة أمريكية كبرى بعد أن حقق بيل كلينتون انتصاراً كبيراً عليه وفاز بالرئاسة، وكنا قبل يوم نستطيع انتقاده لأي سبب معقول أو غير معقول، حيث كان مرشحاً، ولم يصبح رئيساً بعد، فتغدو مسألة انتقاده من المحرمات العربية، التي تمنع شتم رؤساء الدول، كما هي العادة، ولا تسمح إلا بشتم رؤساء إسرائيل وحدهم، طالما هؤلاء لم يوقعوا معنا بعد اتفاقات سلام، تمنعنا من ذلك. غير أن بيل كلينتون أمامه أربع سنوات قادمة لنعرف خيره من عدمه وإن كان شيء من موقفه قد ظهر في حملاته الانتخابية وهو يعد إسرائيل ويلمح من طرف خفي ضد بعض دولنا العربية مثل سوريا، ما يكفي للحذر منه، فيما لو كانت هذه الوعود وذلك الوعيد حقيقياً، لا مجرد شعارات انتخابية لضمان أصوات اليهود وتأثيرهم الإعلامي الضخم في أمريكا. إلا أننا نبقى اليوم مع المهزومين في الانتخابات لا المنتصرين الذين هزمهم الواقع الاقتصادي الداخلي لأمريكا، أكثر بدرجات من قدرة انتصارهم الخارجي على أن يشفع لهم عند الناخب الأمريكي، ما يؤكد أن الشعب الأمريكي لا يعنيه العالم وما يجري فيه، قدر ما يعنيه جيبه وبطنه وسيارته وبيته ورفاهيته الداخلية، وهو أمر مشروع لكل شعب، وليس للشعب الأمريكي وحده، باستثناء، طبعاً الشعب العربي، الذي جاع في بلده وضاع خارج بلده، إلا أن هذا موضوع آخر ليس مجال اهتمام دولنا، اليوم ولا غداً ولا حتى قيام الساعة.
وطالما أن الانتخابات الأمريكية دخلت بيوتنا عبر الشاشات، واقتحمت عقولنا عبر الصحف والمقالات والتحليلات، حتى كأنها انتخابات تجري لنا لا لغيرنا، فنبقى مع المهزومين فيها للاستفادة من دروسها، ونسجل منها ثلاثة أمور:
- الأول: إن تأثير قوى الضغط اليهودية في أمريكا لايزال قوياً وعاملاً مؤثراً وحاسماً في السياسة الأمريكية، ظهر ذلك بالتأليب المبكر على جورج بوش، فيما التأثير العربي صفر على الشمال، مع ما لأمريكا من مصالح عندنا لم نحسن استغلالها أمس ولا اليوم، ولن نفعل غداً، فمصالحنا آخر ما يهمنا على ما ترون وتعيشون.
- الثاني: إن الناهب الحقيقي في أمريكا هي وسائل الإعلام، خاصة التلفزيون، وهي التي اتهمها المرشحان المهزومان على السواء، بيرو وبوش، بانحيازها المبكر لصالح المرشح الديمقراطي، وما يهمنا من هذا هو خطورة هذا الجهاز السحري فيما لو استغل بوجهة صحيحة لتعليم وتنمية الوعي عند المشاهد العربي، إلا أننا لا نزال نستخدمه للتسلية الرخيصة والترفيه المبتذل بمسلسلات الحب والخيانة والدموع وأغاني الهشك بشك.
- الثالث: هو الروح الرياضية للمهزوم، الذي يقبل الهزيمة بصدر واسع ويتنحى عن السلطة وهو يدعم المنتصر على انتصاره وقلبه على مصلحة البلاد أولاً وأخيراً، وهو ما فعله بوش، الذي كانت شعبيته قبل عام عند الأمريكيين تفوق شعبية أي زعيم أمريكي آخر، وهو ما فعله بيرو أيضاً الذي سفح من ماله الخاص الملايين، وهو يعرف سلفاً أنه خاسر، لولا أنه أراد تشكيل فريق آخر من الأمريكيين قد يتطور إلى حزب ثالث كبير في أمريكا في المستقبل، يعمل لمصلحة البلد، كما يعمل حالياً الحزبان الآخران، بلا فوارق جوهرية بين سياساتهما. ويمكن لمن يريد أن يعود من الدروس ما يشاء، غير أننا نكتفي بذكر ما سلف فالدروس لا تعلمنا على كثرتها لنختم بالدرس الأخير الذي لو سألنا تاريخنا العربي المعاصر عنه، لوجدناه هزائم في هزائم، إلا أن بعض القادة حولوها إلى انتصارات حتى مع خراب بلدانهم وانحدارها إلى الحضيض، وما زالوا يصرون على الانتصار، مع أن للانتصار طعماً لم تعرفه بعد شعوبهم المنكوبة بمرارة الهزائم، من الاقتصاد وحتى السياسة ومن العراق شرقاً حتى الصومال غرباً.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.