عبد الحميد أحمد

أذان في مالطة

شبابنا يقعون في الحب من أول نظرة، وبإمكان الواحد منهم أن يعشق في اليوم ألف مرة.

فهو إن رأى فتاة في الطريق عشقها على طول، وإن لمح سيارة سبورت في معرض هفا لها قلبه، وإذا دخل محل أزياء راقه فيه عدة أشياء دفعة واحدة، وهكذا فإنه في يومه يحب عدداً من الأشياء، لكن ليس من بينها الكتاب للأسف، فهذه خاصة المثقفين وحدهم، من الذين يسميهم الشباب بالمعقدين، فيتندرون عليهم. ونحن نستكمل اليوم ما كتبناه أمس بمناسبة معرض الكتاب السنوي في الشارقة، ونقول إن علاقة شبابنا، من هم في سن التعلم والصقل بالكتاب معدومة، لأن الواحد منهم تربى على التلفزيون فعلمه هذا الحب والوله والمغازلة، ثم سلك على حب السيارة وكل ما يكمل له مظاهر الرجولة الكاذبة، أما الكتاب فلم يعتد عليه، ولم يقم معه أية علاقة من أي نوع سواء كانت علاقة حب أم بغض اللهم باستثناء الكتاب المدرسي، الذي ساهم في تنفيره من عالم الكتب والقراءة والثقافة، وهو الكتاب الذي يزدرده أبناؤنا وكأنه دواء شديد المرارة أجبروا على تناوله.

ونتذكر أننا عندما كنا في مثل عمر هؤلاء كانت عادة القراءة تنتشر بيننا من صديق لآخر، وكنا نزور المكتبات التجارية مرة في الأسبوع على الأقل لشراء مجلات وكتب، وكان بعضها لا يفوتنا عدد منه دون أن نقرأه من الجلدة إلى الجلدة، كمجلة العربي، ثم إنني أتذكر من الأصدقاء عدداً منهم كانوا يقرضون الكتب قرضاً كالفئران، أي يقرأونها، ومنهم أخذت عادة القراءة وتعرفت على الكتاب، وكنا نقرأ حتى أيام الدراسة ولا نكتفي بالكتاب المدرسي وحده، وكنا نجد رغم كثافة المناهج وصعوبتها الوقت للقراءة الحرة في بيوتنا، مع أن آباءنا لم يحمل الواحد منهم أي كتاب في حياته، باستثناء كتاب الزواج.

صحيح أن الشباب اليوم صارت له اهتمامات متعددة أكثر، لم تكن تتوفر لنا في أيامنا تلك، غير أن الأصح هو أن نقول إننا كأولياء أمور سلمنا أولادنا لتلك الاهتمامات، التي غالبيتها سطحي وهامشي وضار، ولم نتكبد مشقة غرس القراءة في سلوكهم واهتمامهم اليومي، فصاروا اليوم على جفاء مع القراءة وعلى خصومة وعداوة مع الكتاب، مقابل إقبالهم الشديد على وسائل الترفيه وقضاء وقت الفراغ الأخرى من التي توفرت بكثرة، وفي غفلة من أعيننا حيث كنا نحن أيضاً لاهين لاهثين وراء ما يسرنا.

ونعيد ما قلناه أمس، ففي الإعادة إفادة، ونقول «إنه إذا فلت هذا الجيل من أيدينا ولم يترب على حب المعرفة والاطلاع، وهو ما نراه ونلمسه، فإن بإمكاننا لو أردنا أن نبدأ مع أطفالنا الأصغر، ممن هم على مقاعد الدراسة الابتدائية تحديداً، لكي نعودهم من الآن على اكتساب المعرفة من نبعها، نشترك في هذه المسؤولية نحن كأولياء أمور وآباء وأمهات مع المدرسة وجهاز التعليم عندنا.

فإدخال حصة المكتبة في المنهج التعليمي ليس ترفاً، وإدخال مادة البحث الحر ليس شيئاً زائداً عن اللزوم، بل إنهما البداية لكي نقيم علاقة من نوع ما بين الطفل والتلميذ والكتاب، على أن يكون الكتاب والبحث مشوقين في مادتهما، ويجيبان عن نمط الأسئلة التي يحب التلميذ معرفة إجاباتها.

أما الأسرة، فإدخال الكتاب إلى البيت، وإلى غرفة الطفل أول الطريق، ثم إن أي سؤال يوجهه لنا طفلنا، علينا ألا نتهرب منه، بل إن نساعده في الحصول على أجوبة له، وذلك بإحالته، إلى الكتاب، أو بشراء الكتاب له، لكي يبحث بنفسه عن إجابات على سؤاله.

وبما أننا في موسم معرض الكتاب حالياً، فالخطوة الأولى هي أن نصحب أولادنا إلى المعرض، ولو للفرجة والنزهة لا للشراء، لكي تقع عيونهم على الكتب، فيعشقونها من أول نظرة مثلما يعشقون غيرها ويهيمون في دباديبها.

وتعودنا، أن يكون مثل كلامنا هذا، أذانا في مالطة، حيث لا يستمع إليه أحد من الآباء والأمهات المشغولين عن أولادهم، غير أنه إذا لم نؤذن نحن الصحافيين في مالطة، فمن يفعل إذن؟
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.