عندما يبزغ الفجر ينفض سلمان خمول الليل ويرتدي ثياب النشاط، ثم سرعان ما يخرج إلى الحقل منتشياً برائحة الصباح والعشب المندى، وكعادته يوصي زوجته زهرة بألا تنسى أن تضع “الحب” للدجاج، وأن تفتح عينيها جيداً على العيال الشياطين، ولا ترد عليه زهرة، فقد حفظت وصاياه حفظاً، كما حفظت عمله ومواقيت خروجه ورجوعه.
وسلمان، رغم أن جسمه يوحي بالقوة إلا أنه في داخله بدأ يشعر بالخور والضعف، فالحقل أخذ من شبابه العصارة، لكن مع هذا فإن شعوراً بالهزيمة لم يخالجه قط، بل إنه يردد على مسامع زملائه الفلاحين باستمرار :
– الأرض هذه، كلما حفرت بها وكلما أعملت فيها حرثاً وضرباً كلما أعطت المزيد.
ويضيف بكبرياء : الأرض تتحرك بضرب الفأس.
أما هي فتية ملآنة الجسم بشكل مغرٍ. ذات وجه صبوح وعينين باسمتين حلوتين، ورغم عمرها الذي جاوز الثلاثين إلا أن نضارتها وعودها الصلب ونشاطها الدؤوب مثار إعجاب زوجها، فكان يقول لها مداعباً :
– أنت يا زهرة مثل الأرض تماماً، لا تشيخين مع الزمن، الأرض تكتسي بالشباب والخضرة مع الزمن، وكلما أوغل الفأس في أعماقها كلما أينعت وأزهرت.
وضحكت.
ويضيف في خبث جميل :
– أنت والأرض سرقتما عمري وشبابي، أشيخ أنا فتصغران أنتما!
وتضحك زهرة وتتغنج باسمة في إغراء لذيذ، فيسر لذلك سلمان إيما سرور لأنه يمتلك الأرض وزوجةً ناضجة موفورة العافية كزهرة، وفوق هذا لا تفقد حماس الشباب ونضارته مع الأيام، بل تزداد حسناً وارتواء.
في الحقل يزرع سلمان مع زملائه البصل والفجل والطماطم والعدس والملفوف وخضروات أخرى… في الصباح الباكر يبدأ العمل وعند الظهيرة يتوقف لساعة ينام فيها تحت شجرة اللوز الكبيرة وسط الحقل بعد أن يتناول الخبز مع شيء من الجبن والخضر، ثم يواصل عمله حتى المساء. أنفه تعوّد على رائحة التراب والسماء والعشب، وكان وهو يعمل لا يفكر في شيء غير هذه الأرض التي تحت قدميه، وتحت شفرة فأسه، كانت تعطيه الأحلام، فيرى الحقل قد اتسع وازدادت شجيراته وكبرت مساحة الخضرة فيه، وارتوت جنباته وامتلأت بالخير، وكان يقول لنفسه إن ذلك سيسعد زهرة كثيراً، فبإمكاني أن أشتري لها فستاناً جديداً وعطراً فاغماً من النوع الذي تحبه، وشيئاً من الصابون لجسدها المليء بالصحة، وبإمكاني أن أعطي الأولاد ما يحتاجون إليه من أكل جيد ولباس فاخر، وعندما يكبرون أرتاح أنا.. آه، هذه الأرض التي أعطيتها عمري فاستعادت شبابها واخضرّت سوف تعطي شبابها للأولاد، الأرض هكذا قال مرة لحسان، صديقه الفلاح الطويل ذو الشارب الغليظ والعينين الحادتين، الأرض مثل زهرة يا حسان، مثل كل النساء، يسرقن شباب الرجال وزبدة قوتهم، لكنهن يمنحن العافية للأولاد.
عند الغروب تهدأ الأجواء، وتهمد الحقول تماماً إلا من صرصرة الحشر، فيحمل سلمان أوعيته ويعود إلى البيت تملأ أنفه في الطريق روائح الشجر التي تضمخ الهواء ويملأ أذنيه خوار البقر وثغاء الماعز ونباح الكلاب من بعض المزارع القريبة، وفي البيت يجد زهرة على حسنها ونضارتها وقد أعدّت له العشاء، خبز حار وعدس مع شيء من اللبن والخضر، وعلى هذا المنوال الرتيب كانت تمضي أيام وليالي سلمان، وكان يقول إن العدس وخضار الأرض أطيب من اللحوم، وإلا لماذا يتجدد شباب زهرة لولا هذه الخضار والنباتات؟ وعلى هذا لا يتذكر سلمان أنه تناول وجبة دسمة إلا نادراً، مرة في السنة أو مرتين أو ثلاثاً، رغم أن حظيرة البيت فيها عدد كبير من الدجاج البياض الذي ترعاه زهرة بنفسها.
في إحدى الأماسي المرهقة وكان سلمان قد عاد لتوّه من الحقل وفي رأسه أخذت صورة زهرة تتجلى وهو يراها إلى جانبه متوثبة الجسد في دفء حارق يمتص التعب، في تلك الأمسية، وحين ولج البيت شم رائحة شواء، وأعمل أنفه جيداً فعرف أنه دجاج، فخفق قلبه للمفاجأت السارة وقال لنفسه : ” الليلة دسم في دسم”، لكنه حافظ على سلوكه المعتاد ولم يقل شيئاً حتى لا يفسد على زهرة البديعة مفاجأتها التي حضّرتها لها، أما هي فلم يبد عليها أي سلوك جديد تجاهه، ولما جاء وقت العشاء فوجئ سلمان بأمر آخر، لم يجد أمامه الدجاج والدسم، كان العشاء عدساً كالعادة، فسألها مستفسراً:
– وأين الدجاج؟
قالت تصطنع الدهشة:
– أي دجاج؟
قال مستغرباً :
– ألا تشمين الرائحة، أم أنك لا تعرفين؟
قالت :
– أية رائحة؟
قال :
– رائحة الشواء اللذيذ!
قالت مكابرة :
– هل جننت، ليس لدينا دجاج مشوي، لعله عند الجيران.
اضطر سلمان إلى أن يسكت وأن يتناول عشاءه المعتاد على مضض، وعندما أراد النوم قال : “لعلها صادقة ولعلي كنت أحلم، أو هو حقاً عند الجيران”.
لكن الرائحة عادت وظهرت بعد أسبوع، وتكررت الحكاية ذاتها وكان العشاء عدساً كالعادة، وعندما سألها دار الحديث السابق نفسه بينهما، لكن زهرة اتهمته بالخرف هذه المرة، وأضافت:
– أو لعلك تتشهى الدجاج، حسناً، غداً سوف أشوي لك دجاجة.
في الغد تعشى سلمان دجاجاً دسماً، لكن الرائحة ظهرت بعد أسبوع أيضاً، وكان العشاء عدساً، ودون أن يسأل زهرة هذه المرة خرج يتشمم الهواء المحيط ببيت الجيران، فلم يشم رائحة دجاج إن الرائحة تنبعث من هنا، هكذا أكد لنفسه وقبل أن ينام أضاف: “هذا أمر عجيب، ولعلي بدأت أخرف حقاً”.
وتحدث مع حسان حول الرائحة وما جرى بينه وبين زوجته زهرة، فضحك حسان وقال :
– لا أدري أيكما الصادق؟
هذا أمر محيّر حقاً : الرائحة رائحة دجاج مشوي، ولكن العشاء عدس وخبز، أخذ يحدث نفسه مراراً، وظل هذا الأمر يشغل باله فترة، خاصة أنه عندما تفقد حظيرة الدجاج وجد أن عدده يتناقص، وعندما جابه زهرة بهذه الحقيقة الجديدة أنكرت واستمرت في إسناد التهمة له بالخرف والشيخوخة، فقال لها محتداً :
– تأكلين الدجاج وحدك، وأنا الذي أشقى طوال اليوم؟
ثم أضاف بمرارة :
– وأنا أحسب أن نضارتك وعافيتك بسبب النباتات والعدس، يا ويلي كم أنا غافل وجاهل !
لكن زهرة أقسمت له، وبكت تلك الليلة بين يديه أنها لا تأكل الدجاج وحدها، وإنما هي تتناول العشاء معه باستمرار، وأمام دموعها المنهمرة والتي لمعت فوق خديها المتوردين أقبل نحوها سلمان معتذراً وأخذ يقبّلها بحرارة مبدياً أسفه لشكوكه فيها والتي أثارها الشيطان، وأخذ يلعن الشيطان ويستعيذ بالله من شر الظنون، وعاهدها على أن ينسى موضوع الدجاج والرائحة للأبد.
ذات صباح استبد تعب مفاجئ بسلمان، إذ كان منهمكاً في عمله في الحقل، فقد شعر فجأة بآلام حادة في مفاصله، فقال لحسان إنه ذاهب لبيته للراحة هذا اليوم، وحينما وصل دهمته الرائحة كالمعتاد، لكنه أمام العهد الذي قطعه أمام زهرة بنسيان الأمر تجاهل الرائحة، ولم يعد يفكر إلا في قدميه والآلام العنيفة التي غزت مفاصله هذا اليوم، فأخذ ينادي زهرة ويطلب منها أن تحضر له ماء حاراً فيه ملح، لكنه لم يسمع جواباً، وحينما اقترب متحاملاً إلى الغرفة سمع همهمات غريبة، ثم صدرت عن زهرة ضحكة لم يسمع مثلها من قبل، ضحكة فيها إغراء، شبيهة بضحكة امرأة لعوب بين يدي رجل، فداهمه شك مرير لأول مرة في حياته، وظل واقفاً يقلب الأمر على جوانبه، ولكن هل يعقل أن زهرة تفعل ذلك، ولماذا ؟ إنه يعمل كالحمار منذ الصباح حتى المساء، أليس لأجلها ولأبنائها وللأرض؟ ثم تناهت إلى أسماعه ضحكات أخرى، ضحكات رجل، بلى إنها ضحكات رجل، رجل غريب، ليس فلاحاً بالتأكيد، وسمعها تقول :
– إني أحب رائحتك، هذا العطر الذي تضعه جميل.
ألا يصدق ما يسمعه، بلى إنه يصدق، وطنطن في رأسه العذاب والجنون، ها هي زهرة ترتمي عارية بجسدها الحار المتدفق شهوة في أحضانه، تتشهى رائحة جسده المعطر، ها هما يغيبان في عناق طويل، في ضجعة خادرة، ها هي تستلقي، استبدت به حمى ساخنة، وقال غير مصدق :
– ألأجله تنبعث رائحة الدجاج كل يوم؟ وسمعها تقول :
– أنتم يا ساكني المدينة رائعون، شعركم مرتب ونظيف، ثيابكم من حرير، وتعرفون الحب جيداً!
وسمعه يرد عليها :
– وأنتم طيبون، والجمال لديكم، انظري إلى لحمك كم هو متماسك قوي مليء بالعافية!
اختفت آلام سلمان لم يعد يشعر إلا بالدم ينزّ من عروقه، يصعد إلى رأسه، يكاد يتفجر منه، سحب نفسه وعاد إلى الحقل وقد غابت آلامه تماماً، واستفحلت فيه إحساسات الفجيعة واستبدت به قسوة غاشمة سببتها زهرة التي كان يشبهها لحسان بالأرض، هل الأرض تخون يا حسان؟
جلس تحت الشجرة صامتاً، وفي داخله ضجت الدنيا واشتعلت ناراً تحرقه، ظل يشخص في الأرض بعينين ناريتين، حاول حسان معرفة سبب هذا الانقلاب المفاجئ، لأول مرة يرى سلمان على هذه الصورة المتآكلة الضعيفة، قال سلمان في حرقة:
– أخذت عمري ، سرقت شبابي هذه الأرض، سلبت مني العرق والعناء والقوة، وها أنذا أشيخ، أذبل كالليمونة الجافة، وبعد ذلك لا يبقى لي إلا العدس، هل تصدق يا حسان؟ العدس!
لكن حسان لم يفهم شيئاً، ومرجل الغضب الهادر في قلب سلمان لم يشعر بحرارته أحد بعد، لحظات مضت وحسان يحاول استجلاء الموقف، تناول سلمان الفأس، وانبرى واقفاً متوثباً كمن عاده شبابه الغض، قال والشرار يتطاير من عينيه الغارقتين في الجمر :
– هل يجتمعان معاً؟ هل يجتمع العدس والدعارة معاً؟
فغر حسان فاه وقال دهشاً :
– ما علاقة العدس بالدعارة؟
قال سلمان وفي صوته شيء كزمجرة الريح:
– اجتمعا ! العدس والدعارة!
حمل فأسه، وقبض عليها كمن يقبض على شيء عزيز يخاف أن يفقده، خطا خطوات وهتف في غضب جعل حسان يجفل في هلع :
– الفأس ليست للأرض وحدها !
قال حسان دون أن يفهم :
– هل تشعر بحمى يا سلمان؟
قال سلمان دون أن يلتفت إليه :
– بل بالعافية كلها !
وأضاف شاخصاً إلى الفضاء :
– الأرض لا تحرث من هنا فقط!
ومشى خارجاً من الحقل صوب البيت، وكان كلما دنا شم رائحة الشواء، فسارع الخطى بهمة شاب والفأس في يده يقبض عليها بقوة كما لو أنه سيهوي بها على الأرض ليشق بها مجرى للماء!