ربما لم يجد الأدباء والكتاب والمفكرون, خاصة من أصدقاء الراحل حسين حلاق, الكلمات المناسبة لرثائه, ولا المدخل المناسب إلى ذلك, فالذي عاش في صمت وأنجز في صمت, ربما كان لائقاً به أن يرحل في صمت أيضاً .
غير ان الصمت في حالة حسين حلاق تحديداً, الذي رحل عن دنيانا مؤخراً لا يليق بنا, نحن أصدقاء حسين حلاق ومعارفه, بطريقة أو بأخرى, بمعنى أو بآخر, إذ ينبغي أن نقول في الرجل كلمة حق فلربما يتذكره من بعدنا من يتذكر, بوصفه عربياً آخر من الشرفاء الذين حلموا وعملوا وماتوا من أجل حلمهم.
ولعل الصدف وحدها, أكثر من غيرها من العوامل, التي ربطت مصير حلاق بغيره, وجمعت طريقه مع طرقهم, فإذا كان ذلك غير صحيح بالنسبة للآخرين, فبالنسبة لي على الأقل, حيث شاءت ظروف أن تصدر لي أول مجموعة قصصية عن دار حلاق في بيروت التي أطلق عليها في الثمانينات اسما دالا هو (دار الكلمة) , بعد ان تعذر نشرها لسبب فني بحت في دمشق, فدفع بها صديق مشترك هو السوداني (المغامر) أبو القاسم حاج حمد إلى حسين حلاق. أما (دار الكلمة) نفسها فقد تعرفنا عليها في أواخر السبعينات من خلال بعض أهم الأعمال, منها أعمال ماركيز الصاعدة وقتئذ والتي بدأت تشق طريقها الى العربية, وإصدارات أخرى دلت على صاحب الدار, قبل أن تدل على المطبوعات وحدها, إذ لا يختار هذا النوع من الاصدارات الراقية فكراً وفناً وأدباً, إلا مثقف, ولو كان في الظل, هو حسين حلاق تحديداً.
أما الظل فهو لعبة وهواية المثقف الحقيقي الذي يحلم ويسعى لمشروع أمة, لا لمشروع خاص, فيمتلك أولاً ناصية المعرفة والوعي والثقافة, ويمتلك معها ثانيا صفات التواضع والصبر والجهاد والعمل المتواصل, ويمتلك ثالثا معها القدرة على التضحية والعطاء من دون حدود. وهكذا عاش حسين حلاق حياته كاملة في الظل فيما يبدو, إذ سبق معرفتنا الشخصية به منذ العام ,1980 حين زارنا في الامارات أكثر من مرة للمشاركة في معارض كتب ونشاطات أخرى, حياة أخرى حافلة بالعطاء السياسي والفكري من دمشق إلى القاهرة, ومن بغداد الى بيروت, ومن العواصم العربية إلى عاصمة العرب في المهجر لندن, ومن المشاركة في ثورات إلى الانغماس في السياسة مروراً بالمقاومة, وانتهاء بالكلمة في مشروع الدار.
غير ان كل هذه الحياة الحافلة البعيدة عن وهج الأضواء الذي يجري خلفه الآخرون حين يقطفون الثمار, انتهت محطاتها بإنكسارات متوالية, هي نفسها محطات الزمن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين, حيث هزيمة تلد أخرى, وإحباط يورث آخر, وانكسار يسلم لإنكسار, إلى المحطة الكبرى في حياة حلاق, بغزو إسرائيل لبنان وضربها بيروت, فمغادرة, لا المقاومة الفلسطينية وحدها, وإنما كل العرب الآخرين الحالمين بزمن عربي وضاء. وبطبيعة الحال فإن الزمن العربي الوضاء لم يأت, ولا يوجد في الأفق ما يبشر به, لذلك رحل المجروحون في كراماتهم الوطنية والقومية إلى عواصم الشتات, فحل من بينهم حسين حلاق في لندن, لا لشيء, سوى ان العربي مثله انتهى وهو يحلم بأن يموت في كرامة, بعد أن تعذرت هذه في الحياة وفي الوطن.