البيدار

البيدار

(1)

حول الخيمة المشيدة فوق تلة رمل جنوب المساكن الشعبية تجمهر كثيرون : رجال . نساء. أطفال.

ثمة رجال ملثمون. أطفال مذعورون. نساء يولولن ويصطخبن.

صوت :

– الباب مغلق.

صوت آخر :

– الرائحة كريهة لا تطاق.

صوت ثالث :

– كأنها عفونة فئران ميتة.

الشمس حارقة. الرمل ساخن كالرماد تحته الجمر. العرق ينضح من الوجوه. مزيد من الناس يقبل تجاه الخيمة. الضوضاء تعلو والصخب يتزايد.

تتشابك الأنفاس الحارة بروائح العرق. تتكاثف الرطوبة. ورغم ذلك يظل للرائحة المنبعثة من الخيمة صراخ حاد وجارح.

صوت :

– هذه خيمة “مريش” … أليس كذلك؟

صوت آخر :

– لكن “مريش” تركها ورحل.

صوت نسائي :

– أخبرني بنفسه أنه راجع إلى عمان.

صوت … :

– لمن ترك الخيمة إذن؟

صوت … :

– لعله الحمار . حماره.

صوت … :

– الأمر لا يخلو من غرابة.

الصوت الأول :

– “مريش” لن يترك حماره. حتماً سيأخذه معه.

الرجال الملثمون يشددون اللثام على أنوفهم. همهمات تأفف :

– أف.. ما هذه الرائحة ؟

وسط الضجيج وأمواج الصخب والرطوبة سأل طفل أمه ببراءة :

– من هو “مريش” يا أمي؟

… لكن أمه لم تسمعه.

(2)

حين تسلق النخلة “الفحال”([1])  ووصل إلى قمتها فتح “الغيظ”([2])  شم رائحة شبيهة برائحة المني. داعبت مخيلته وازداد شوقه إلى المرأة التي يراها دائماً وبسهولة، ولكنه لا يلمسها.. لم يلمسها في حياته أبداً.

حمل “النبات”([3])  تحت إبطه. رجع إلى خيمته في وقت الظهيرة . تناول حبات من التمر وشرب القهوة. أشعل “المدواخ”([4])  وراح ينتشي بطعم التبغ العماني في فمه. استلقى على ظهره فوق حصيرة. باعد بين الجريد ليسمح للهواء بالدخول. حاول أن يغفو.

الحمار يحمل المتاع ويمشي أمامهما. يهشه بين فترة وأخرى بالعصا. قطعا الجبال والأودية الصخرية والصحارى الرملية. كم استغرقت الرحلة؟ “مريش” لا يستطيع أن يتذكر، لكنها كانت رحلة طويلة وشاقة. قال له أخوه :

– “الباطنة”([5])  صارت بعيدة الآن.

– علينا أن نصل الساحل.

– سوف أشتاق إليها يا “مريش”.

– المهم أن نعمل. أن نكسب. أن نعيش.

– ومتى سنرجع ؟

– علم ذلك عند ربك.

أخوه صار “محلوي”([6])  بارعاً ذاع صيته في دبي كلها. “مريش” استقر به المقام في الجميرة([7]) .

تذكر ذلك . دمعت عيناه. حاول أن يغفو مرة أخرى، لكنه تذكر أن “بو جاسم”  كان قد طلبه ليأتي إلى بيته ليذبح له خروفين لمناسبة ختان ولديه.

حمل السكين وخرج قاصداً بيت “بو جاسم”.

(3)

صوت أول :

– الحرارة تزداد والرائحة تخنقنا.

صوت ثانٍ :

– يجب اقتحام الخيمة.

صوت ثالث لشاب على عينيه نظارة طبية :

– علينا أن نستدعي الشرطة ورجال الصحة كذلك.

صوت :

– لماذا؟ هل نحن عاجزون؟

صوت الشاب :

– قد تسبب الرائحة وباء.

صوت .. لرجل انبرى فجأة وسط الزحام :

– من قال إن ” مريش” رحل إلى عمان؟

صوت نسائي :

– أخبرني بذلك.

صوت الرجل ذاته :

– لكنني رأيته قبل أربعة أيام يجلس في ظل نخلة. كان مهموماً.

الصخب يختلط. الأجساد المتزاحمة ترفع حرارة الجو. الضوضاء تتكاثف. الأصوات ترن في الفضاء. عاد الطفل يسأل أمه :

– من هو “مريش” يا أمي؟

…. لكن صوته ضاع في اللجة.

(4)

حزين. وحيد. دخن التبغ كثيراً. مرّ به صديقه سالم البعير الذي لم يره منذ فترة طويلة. دخَّنا معاً. فكّرا معاً.

قال له صديقه بدهشة :

– ولكن لماذا تريد العودة ؟

هصره الألم.. قال بأسى :

– كيف أعيش هنا . لا أحد يلتفت لي.

وبعد صمت. ارتعشت عيناه. همست شفتاه :

– النسيان لا أحتمله!

– ولكن …

قاطعه وقد شارف حافة البكاء :

– لم يعد أحد مهتماً بالنخيل، والخرفان تذبح في مسالخ السوق.

– ولكن .. بإمكانك العمل. ناطور. مزارع للبلدية. فراش. كما عملت أنا ناطوراً. أو لماذا لا تعمل مع أخيك في محله؟

حدجه بعينين مطفأتين. قال :

– مات أخي منذ عامين.

– يرحمه الله.

صبَّ له فنجاناً من القهوة. قال وهو يحك أنفه بقوة :

– العمل يحتاج إلى هوية. جنسية. جواز. لا أحد سيقبلني.

صمت . نهشه الحزن واليأس :

– أولاد الحلال ماتوا.. تفرقوا.. ولا أحد يذكرني الآن.

صمتا.. تبادلا نظرات حائرة قلقة :

– أترحل بعد 30 سنة يا “مريش” وكأنك لم تأتِ إلى هذه البلاد؟

– أعود .. كما جئت. سأعمّر مزرعة في “الباطنة”.

لملم “مريش” حاجاته. نهضا معاً . وقبل أن يغادرا الخيمة قال :

– خذ الحمار يا سالم. لعله يفيدك.

أوصله إلى حيث أقعى “مريش” في “الوانيت”([8])  الذاهب إلى عمان.

عانقه طويلاً . امتزجت أنفاسهما وانداحت قطرات من عيني “مريش” وهو يلوح لصديقه مودعاً.

(5)

كنت في الثامنة. ذات يوم سمعت أن “مريش” سيأتي لمساعدة أبي في تلقيح النخلة في بيتنا. فرحت لأنني سأرى “مريش”. كنت سمعت عنه كثيراً ولم أره.

سألت أبي ونحن جالسان في ظل الجدار :

– ماذا يعمل “مريش”؟

– “بيدار” يا ولدي.

– وهل عنده أولاد ؟

– يعيش وحيداً في خيمته. لا زوجة ولا أهل.

– لماذا لا يتزوج؟

– إنه من عمان، وفقير. من سيزوجه؟

…. “أوي ها.. أوي ها.. هود هل الدار”. ثم سمعت نحنحة ورأيت رجلاً أقبل يعرج. في يده “داس”([9]) . لحيته سوداء. رأسه ملفوف بغترة مصفرة. عيناه ضيقتان.

فتحة أنفه اليمنى متآكلة محمرة. إزاره مخطط بالأزرق والأخضر. قميصه أبيض مبقع بالعرق والتراب.

داعبني :

– هاه .. أنت “ولد مخبوق([10])  رأسه”.

وضعت يدي فوق رأسي أتحسس إن كان هناك “خبق”. أبي أخذ يبتسم وقال لـ “مريش” الذي أصدر ضحكة لم أسمع مثلها من قبل.

– ألا تترك “سوالفك ” يا “مرشان”؟

ثم شرعا يعملان وأنا أراقب “مريش”.

بعد أن انتهيا ، قدمت لهما أمي تمراً و “بلاليط”([11])  وقهوة، قالت تخاطب “مريش” في دعابة :

– سنزوجك “حنتومة”([12]) . ما رأيك؟

أعرفها. امرأة سوداء مرحة. تجلب الماء من “الحليو”([13])  فوق حمار.

قالت لي مرة في خبث :

– انته يا “بو سمبول”([14])  دائماً متعلق في ذيل أمك؟

أجاب “مريش” ضاحكاً ضحكته الخاصة :

– لا أريدها .. أخ.. أخ.

…. وأحببت “مريش” صار أمراً نادراً ألا أراه في كل مكان. في الحي. في النخل. في البيوت. مع الرجال والنساء في الأعياد. في حفلات المالد والختان والأعراس. فوق بئر الماء وفوق سيف البحر. يداعب الجميع وصدى ضحكاته المميزة تتردد في الأزقة والأسماع.

ومرت السنون. سافرت للدراسة. حين رجعت لم أسمع أحداً يذكره أو يتحدث عنه.

(6)

الخيمة تكاد تختفي خلف الأجساد المتزاحمة حولها. الشمس تلعن المكان بضربات حامية. الأصوات تتصاعد خليطاً من التساؤلات والهمهمات والثرثرة. مساحة الذعر والدهشة تتسع في وجوه الأطفال. الرائحة الكريهة ممزوجة بالعرق الآدمي تستفحل في الجو.

صوت :

– يا جماعة .. يجب أن نفعل شيئاً.

صوت آخر :

– ماذا؟ هل نستدعي الشرطة ؟

صوت أول :

– كلا .. نكسر الباب لينكشف السر.

صوت .. :

– الحر قاتل . لنكسر الباب. ليس أمامنا إلا هذا.

أصوات :

– هيا إذن.

اشرأبت الأعناق. اندفع ثلاثة رجال بقوة صوب الباب. سمع الآخرون قرقعة ودوياً. ساد صراخ وهرج. امتلأ المكان ببكاء نساء وحشرجات أطفال. تدفقت الرائحة قوية كأنها شلال. صفعت الوجوه. أزكمت الأنوف ثم أخذت تتصاعد في الهواء الساخن. علا بكاء النساء. بعضهن تأفف:

– تفوه.. أية رائحة هذه.

تصايح الرجال :

– لا حول ولا قوة إلا بالله .

(7)

في اليوم التالي جلست أم عبد الله مع جارتها أم حسين تتحادثان. قالت الأولى وفي عينيها دمعتان :

– واحسرتي عليه.. مات مثلما يموت الحمار.

– يقولون إنهم وجدوه منتفخاً مثل القربة. وأقسم أبو حسين بأنهم لم يستطيعوا معرفته. فقد كان وجهه متورماً، وعيناه مطموستين تحت اللحم. ويقول أبو حسين إنه رأى ديداناً تخرج من فتحة أنفه وفمه.

بصقت أم عبد الله .. دفنت بصقتها .. قالت :

– أهكذا يموت بني آدم؟ .. تفوه.

– هذا زمان الأخ فيه ينسى أخاه.

بعد أن حوقلت أم عبد الله قالت :

– يقول بو عبد الله إن أبا ناصر رآه قبل خمسة أيام. سأله : “لماذا لم تذهب إلى عمان؟” فأجابه بأنهم منعوه من الدخول على الحدود. سألوه عن جواز سفره. فأخبرهم أنه عماني، لكنه يعيش في الإمارات. لم يصدقوه فرجع .

قالت أم حسين متأثرة :

– حرموه من رؤية أهله وبلاده.

واصلت أم عبد الله :

– ويقول بو عبد الله إنهم لم يعطوه جواز الإمارات كذلك.

– الله يغفر له ويرحمه .

ساد صمت ثقيل كسرته أم حسين :

– أتعلمين يا أم عبد الله أن “مريش” لم يمت.

اتسعت حدقتا المرأة دهشة . تساءلت :

– ماذا ؟ لقد دفنوه البارحة .

– أعلم .. لكن الذين دخلوا عليه الخيمة، قالوا إنهم وجدوا جروحاً كثيرة في بدنه، ورأوا في رقبته جرحاً عميقاً والدماء السوداء الجافة كانت تغطي الأرض تحته، وعلى مقربة وجدوا “الداس”.

– هل نحر نفسه ؟

تساءلت في وجل غير مصدقة. وضعت يدها فوق خدها. سكبت القهوة من فتحة فمها اليمنى. اغرورقت عيناها تمتمت :

– واحسرتي عليك يا “مريش” قتلك القهر فمتَّ وحيداً لا أهل ولا زوجة.

… ثم انشغلت الحارة لشهر كامل في رواية ما جرى لـ “مريش”.

جرت قصته على ألسنة النساء والرجال ممزوجة بالدمع والرثاء و … الأسف.

وقبل أن تهدأ عاصفة الحكاية التي أثارت الجميع جاء إلى أم عبد الله طفلها الأصغر سألها :

– من هو “مريش” يا أمي ؟

[1]) “الفحال” :  النخلة المذكر.

[2]) “الغيظ” : الطلع. 

[3]) “النبات” : حبوب اللقاح. 

[4]) “المدواخ” : مبسم أو أنبوب التدخين التقليدي (البايب حديثاً). 

[5]) “الباطنة” : منطقة تقع في عمان . إقليم. 

[6]) “محلوي” : صانع حلوى عمانية. 

[7]) “الجميرة” : منطقة ساحلية في دبي. 

[8]) “الوانيت” : سيارة نقل كبيرة. 

[9]) “داس” : منجل له أسنان كالمنشار. 

[10]) “مخبوق” : مثقوب و (الخبق) هو الثقب.

[11]) “بلاليط” : الشعيرية. 

[12]) “حنتومة” : اسم امرأة. 

[13]) “الحليو” : بئر الماء العذبة كان الأهالي يجلبون منها الماء. 

[14]) “بو سمبول” : قضيب الطفل الصغير (مداعبة). 

البيدار
قصص البيدار 
عبد الحميد احمد