يقول الولد لأمه: لقد رأيت فأراً أكبر من فيل، فترد عليه أمه معنفة إياه: لا تكذب يا ولد، لقد قلت لك
40 مليون مرة ألا تبالغ. وعلى مثل هذه الدروس العظيمة في التربية كبرنا ویکبر أولادنا، فإذا لم يكن ذلك بأيدينا وعلى ألسنتنا في البيوت والمدارس، فعلى میکروفونات الإذاعة، ومسلسلات التلفزيون، وخطب السياسيين وبيانات المؤتمرات، وحتى الشعر العربي، قديمه وجديده، يدربنا على ذلك، فنستشهد منه بأبيات على البطولات الخارقة والأمجاد العظيمة، والمستقبل الباهر القادم، حتى صارت حياتنا انتصارات على الورق، وعلى كتابات الجدران بما في ذلك جدران المراحيض.
فالمبالغة، وهي صنو التطرف، فن عربي، فإذا بكى أحدنا دمعة أو دمعتين، فقد أهرق وابلاً من سيل وملأ البحار والمحيطات، وإذا ضحك اهتزت أركان الدنيا من قهقهاته وأسقط دويها الامباير ستيت، ولم تكفنا المبالغة في الضحك والبكاء، فنقلناها إلى السياسة، فمرة نحن في أقصى اليمين، ومرة أخرى أقصى اليسار، ومرة نكره إسرائيل حد الموت، ومرة نعشقها حتى الموت، وإذا رفضنا السلام رفضناه بالمطلق دون أن نحارب، وإذا قبلنا به قدمنا ما خلفنا وأمامنا هدية له، ولو جلسنا على الحصيرة، فداءً ووفاءً وعشقاً.
ولم نكن بحاجة إلى مزيد من إنجازات المبالغة لكي تجرح مشاعرنا ونحن في عید، لولا أن السياسة العربية لا يهدأ لها بال إذا لم تقدم لنا هديتها وعیدیتها، فنحن عندها أموات، مالجرح فيهم إیلام.
فمن كان يتوقع مثلاً أن يذهب 190 ليبياً إلى إسرائيل، ولو كان ذلك لزيارة القدس، وهي الأسيرة تحت سيطرة الصهاينة، فيما نحن لم نشاهد ليبياً من قبل إلا متظاهراً وهاتفاً وملوحاً بقبضة يده ضد إسرائيل وأمريكا والغرب، ومع الوحدة العربية حتى لو كانت مع روبرت موجابي؟
صحيح أننا نتفاوض مع إسرائيل، غير أننا لم نصل بعد معها إلى حد أن نطلب منها تأشيرات زيارة تدمغها فوق جوازاتنا لكي تسمح لنا بزيارتها، وصحيح أننا في طريقنا إلى الاعتراف بها رسمياً، غير أن هذا الاعتراف لم يتحقق بعد علناً، ثم إن ليبيا، ربما تكون آخر المعنيين به، فدول الطوق والمواجهة، وهي الدول المفاوضة أولى من غيرها وأدرى بما تفاوض عليه، وبمتی يمكنها تحقيق هذا الاعتراف، ونضيف على ذلك، أن مصر التي تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لم يجرؤ مواطنوها بعد على هذه القفزة البهلوانية، التي ستجر وراءها ذيولاً سياسية تتجاوز ربما ما يمكن أن تصل إليه عملية السلام نفسها.
وإذا كانت ليبيا ترد على الدول العربية، على اعتبار أن هذه تخلت عنها في أزمتها مع الغرب، وهي تبحث عن مخرج لها حتى لو كان عن طريق إسرائيل، ويهود ليبيا السابقين، الذين قرأنا عن اجتماع القذافي بهم مرات لكي يتوسطوا له لدى الغرب، فإن الذهاب إلى هذا الحد من العلاقة مع إسرائيل، فيه من المبالغة ما يجعل من الفأر فيلاً بحق وحقيق، لا مزاحاً ولا هذرة.
وإذا كنا مثل الأولاد، نقول عن أحدهم إنه لما شکح (وعند الشوام فشخ) شطح، فإن المتوقع أن يكون السلام مع إسرائيل أقرب مما نتصور، وأسرع من قطار مدريد، ومن جولات الثنائية، الظاهر منها والباطن، ما نتصور معه أن نقف صفوفاً الصيف القادم على بوابات سفارات إسرائيل في دولنا لنطلب تأشيرات دخول سياحية لقضاء الصيف في إيلات وتل أبيب وغيرهما، ومن يعش يرى ويشوف، ويضحك ويبكي أيضاً، فالمبالغة والمزايدة قتلتنا أمس وتقتلنا اليوم
حين يصبح الفأر فيلاً
6/1/1993