قلنا مرة، إذا كنتم تتذكرون، أن النساء كالصحف، حيث إن لكل منهما شكلاً خاصاً به، والقديم منهما غير مرغوب فيه، وكلاهما جدير بالتصفح والقراءة، ولهما علينا تأثير ونفوذ كبيران، مع أننا لا نستطيع أن نصدق دائماً ما تقولانه، فنصف كلام الأولى بأنه کلام نسوان، وكلام الثانية بأنه کلام جراید.
غير أن ثمة فارقاً جوهرياً بين أي صحيفة وأية امرأة في الدنيا، ذلك أن الثانية تعتبر عمرها كما تعرفون، من الأسرار الاستراتيجية الخطيرة، فلا تفشيه لأحد، خاصة زوجها لكي لا يفر منها إلى غيرها، فيما الأولى يسعدها أن تعلن ميلادها كل عام، وأن تكشفه للناس، ذلك، لأنها كلما كبرت وشاخت، ازدادت ثقة بنفسها، وعلواً عند قرائها، وربما شباباً وازدهاراً مع تقدم العمر والسنين عليها.
وفاتنا أمس، ونحن في هيصة وزمبليطة (على رأي الأفلام)، كما هي عادتنا كل يوم (من الشغل والله العظيم لا من أي شيء آخر) أن نتذكر العيد السنوي لـ «البيان»، فنكتب عنه، حتى تذكره بعضنا متأخراً، والعادة أن ننسى كل الواجبات الاجتماعية بما في ذلك امتحانات الأولاد وأعياد ميلادهم، وزيارات الأصدقاء والأقارب، ما يجعلنا في حرج دائم ويوقعنا تحت طائلة الشعور بالتقصير والذنب، وتحت التقريع الدائم من حريمنا وأهلنا، ومع ذلك لا نستطيع تغيير ما درجنا عليه، فنستمر فيه كثيران السواقي، كرّم الله القراء وكرّمنا معهم.
على أننا، بعد أن نتذكر عيد ميلاد الصحيفة، التي نعمل فيها، تنفتح في أذهان الزملاء ذكرياتهم الحلوة والمرة معاً، فتتحول كلها إلى طرائف وسوالف وذكريات مسلية، بما في ذلك المر منها والسيئ، بعد مرور سنوات عليها.
ولا يزال زميلنا المخضرم مصطفی کمال مثلاً، يتذكر بدايات «البيان»، على اعتباره من الذين واكبوا تأسيسها وانطلاقتها، فتدور في باله ذكريات عنها، منها أنه طرح سؤالاً ليلة صدور العدد الأول على زملائه حين قال لهم: أين الدسك؟ كيف تصدر جريدة من غير دسك؟ فرد عليه أحدهم: ديسكو، الله يخليك، خلينا بعيد عن المشاكل، الديسكو ممنوع في البلد!
أما زملاء آخرون مخضرمون أيضاً في أحد أقسام التحرير، فلا يتمالكون أنفسهم من الضحك، كلما تذكروا رئيساً لقسمهم، كان يعاملهم معاملة الضابط لجنوده، فينصب نفسه رقيباً على حركاتهم ومواعيد عملهم، فالضحك في العمل ممنوع، والحديث مع زميل آخر من القسم نفسه أو من أي قسم آخر ممنوع، وتأخير عن العمل ولو ربع ساعة يستحق خصماً ولو عشرة دراهم، ووصل بهم الحال إلى حد أن فرض عليهم الكتابة بالرصاص، لكي يستطيع تصحيح ما يكتبونه من ورائهم بالمساحة، لا بالتشطيب كما هو الحال عادة.
ومثل هذا الزميل كثيرون ممن يبالغون في التشدد والصرامة، حتى طلع عندنا، خاصة بعد حرب الخليج الثانية، ألقاب سرية لبعضهم، كلقب الجنرال، وشوارزکوف وغيرهما، من التي يتداولها الزملاء فيما بينهم، وتتحول لاحقاً إلى ألقاب طريفة هي موضع الرضا من الجميع، لا الزعل والخصام كما قد يتصور القراء.
ونكتفي بذلك، لأنه لا يمكننا في مثل هذه الزاوية أن نمضي أكثر مع ذكريات من هذا النوع يطول الحديث عنها وفيها، کسالفة المحرر الذي وضع تقريراً هاماً مرة في جيبه وأخذه معه إلى البيت، فصدرنا في النهار التالي بسواد الوجه لأننا تخلفنا عن غيرنا في نشره، ثم تحولت حكايته إلى طرفة تستدعي الضحك، لا العقاب والغضب.
إلا أننا نختم بحكاية لأحد الزملاء العراقيين يوم كان سكرتيراً للتحرير في بلده، أخطأ مرة سهواً بالطبع، فصدرت الصفحة الأولى بمانشيت عن القائد البصل، بدلاً من القائد البطل، إلا أن زميلنا نجا بجلده بفضل رحمة الله عليه، ما يجعله الآن يعتبر ذلك اليوم عيد ميلاده الحقيقي، لا اليوم الذي ولدته فيه أمه، وعلى ذلك فإننا لا نندهش عندما نراه يتحسس رقبته وهو يسرد علينا هذه الحكاية، ومثله يفعل اليوم كل الصحفيين وهم يتحسسون كل لحظة خطواتهم وكلماتهم، فلا يقعون في مصيبة، كان الله في عونهم جميعاً. 11/5/1993
طرائف لا تنسى
عبد الحميد أحمد
مع الناس 4