عبد الحميد أحمد

قبر إضافي لأم الشهداء

حفار القبور في غزة، صبي صغير عمره لم يتجاوز الثامنة عشرة. ويحفر يومياً ما بين ثلاثة إلى خمسة

قبور، لشهداء أطفال مثله، غير أنه في أيام أخرى يضطر إلى العمل لساعات أطول، لحفر عشرة قبور،

وليس أقل من ذلك، حين يكون الرصاص الإسرائيلي اشتغل أكثر فأنتج شهداء أكثر.

وقرأنا مؤخراً، أن شهيداً صغيراً، من هؤلاء، تنازعت فتح وحماس وتصارعتا على إقامة العزاء له، وحسمت الأمر أسرة الشهيد نفسها حين فضلت حركة حماس، لأن الصغير كان يتردد على المسجد ويرتل القرآن، فهو أقرب إلى حماس إذن.

والحمد لله، أن النزاع لم يتطور أكثر إلى حرب بينهما ورصاص واغتيالات، مع أن الأرض بين فتح وحماس ممهدة ومفروشة لمثل هذه الحرب، التي لا ينقصها سوى قطرة زيت لكي تشتعل، فتأكل الشهداء، قبل غيرهم.

وبعيداً عن هؤلاء تمضي إسرائيل يوماً بعد آخر، فتخرج من جرابها مبادرة وراء مبادرة، آخرها فصل غزة عن يهودا والسامرة (الضفة الغربية) في المفاوضات، لكي يبدأ تطبيق الحكم الذاتي فيها، وكل مبادرة مهما كانت، لابد أن نختلف حولها، غير أننا في النهاية نقبل بها، فما باليد حيلة، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.

واختلفت حكومة إسرائيل وصارت مهددة بالانهيار، ثم اتفقت في أسبوع، ولم نخلص بعد من خلافاتنا السابقة ولم نتفق على أي منها، حتى اختلفنا مجدداً، عبد الشافي لا يرى أملاً في المفاوضات، الحسيني يطالب المترددين بالاستقالة، عشراوي بين بين، السائح يستقيل احتجاجاً، المنظمة لا تمانع في النظر في الاقتراح الإسرائيلي، وحماس تؤيد استقالة السائح بلا تردد.

وبعيداً عن هذا أيضاً، تمضي إسرائيل أبعد من ذلك، فيزور وزير خارجيتها الهند والصين معاً، أكبر دولتين آسيويتين مؤيدتين لقضيتنا، فيخرج مالئ الوفاض باتفاقيات وقنصليات وعلاقات، فما دمنا عملياً نتفاوض مع إسرائيل، فلماذا نطلب من الآخرين الوقوف على الحياد وتأييدنا وحدنا، ونحن لا نؤيد أنفسنا ولا قضيتنا، التي لم نعد نعرف ما هي هذه القضية.

حتى أريتريا، أحدث دولة في العالم، التي استقلت وتحررت بدعم عربي أساساً لا تريد لنفسها أي شبهة علاقة مع العرب في بداية مسيرتها، فتنأى بنفسها وتعلن أنها ليست مع العرب، وليست مع إسرائيل. وبما أننا هذا حالنا، فلماذا تخسر الدول الأجنبية من أجل عيوننا؟

ولا نعرف بعد ذلك، أي طريق نسلك لكي نكسب القضية، التي صارت نصف قضية، وربع قضية، وغداً ثمن قضية، فطريق الشهادة مسدود، وطريق الحرب غير صالح للاستعمال لأنه مقصوف بالنابالم والقنابل، وطريق المفاوضات انتهى عمره الافتراضي، وطريق التنازلات تحت الإنشاء، وطريق الوحدة انتهت صلاحيته، وطريق الأمم المتحدة غير سالك وطريق واشنطن مفخخ، وطريق موسكو انهار ولم يعد صالحاً للسير.

لذلك، لم يتبق عندنا غير طريق واحد، هو طريق «الفاليوم» (على رأي محمد الماغوط)، إلا أننا قبل أن نسلك هذا، نعود إلى الصبي حفار قبور شهداء غزة لنطلب منه أن يأخذ الأجر فينا، ويحفر قبراً إضافياً، لأم الشهداء القضية، خوفاً من أن تموت هذه بعد حين فلا تجد قبراً يؤويها في كل الوطن العربي. 28/5/1993

قبر إضافي لأم الشهداء

  عبد الحميد أحمد

جيوب أنفية لإحلال السلام