عبد الحميد أحمد

حرية إغلاق الفم

إذا قضى أي تلميذ عربي، طفولته وصباه وشبابه، وهو يشاهد أباه، يخرج من البيت مبكراً مع صياح الديك ليلحق طابور الخبز، ثم طابور اللحمة، ثم طابور السكر والأرز والطحين، ثم طابور الكاز والغاز، ثم طوابير فواتير الكهرباء والماء، فلما يعود آخر النهار منهكاً، يحمل من كل شيء رزمة، علاوة على رزمة الفواتير والبطاقات التموينية، فإن أي معلم ومربي أجيال فاضل، إذا سأله في الصف عن كيفية الحصول على السكر مثلاً، فسيكون جواب التلميذ عليه: بالبطاقة يا أستاذ.

لذلك، لا نعرف مثلاً، لماذا نحتفل في عالمنا العربي، ونحن نقلد غيرنا، بيوم التدخين العالمي، ويوم البيئة العالمي، وأسبوع المرور، وأسبوع الشجرة، ويوم الأم، وعيد الأسرة، ويوم الشباب، ويوم الطفل ويوم المسرح، وعيد المرأة، وعيد المدينة، وغيرها من الأعياد والمناسبات، التي تجعجع بها وسائل الإعلام في الوقت الذي يكون فيه أي مواطن يدور ويلف مثل رقاص الساعة، من مخبز إلى مخفر، ومن مصلحة ماء إلى جمعية تموينية، فلا تكون لهذا المواطن مناسبة في السنة هي يوم البطاقة.

في هذا اليوم مثلاً، يستطيع فيه أي مواطن عربي الحصول على ما يحتاج من مواد غذائية بلا بطاقة، وبأرخص الأثمان، ومن كل المحلات، فلا يتعرض للدفش والرفس والفعص في أي طابور، وعن طريق هذا اليوم تدخل السعادة إلى قلبه وقلب أفراد عائلته.

مثل هذا اليوم يستحق الاحتفال، وأتصور أن كل مواطن عربي سيرفع فيه الأعلام على بيته، وسيرتدي ثياباً جديدة، وسيشعر بمناسبة سارة، جديرة بأن يعزم لها أقاربه وأصدقاءه ليحتفلوا معاً بها، وإلا ما علاقة مثل هذا المواطن مثلاً بعيد الشجرة أو يوم التدخين العالمي، وهو لا يكاد يجد برتقالاً في السوق بسعر يناسب راتبه، أو لا يذوق كيلو لحمة إلا من عيد أضحى إلى عيد أضحى؟

على هذا المنوال، تستطيع الحكومات العربية، خاصة الثورية منها، بعد أن حررت فلسطين بالميكروفونات، ودمرت المصالح الأمريكية بالإذاعات، وساهمت في تحرير الشعوب الصديقة، في أفريقيا وآسيا وحتى أوروبا، بالمؤتمرات والخطب والسيارات المفخخة وخطف الطائرات، أن تلتفت الآن لمواطنيها، فتسعدهم، بيوم قومي للضريبة، ينجز فيه المواطن كل معاملاته بلا رسوم ولا دمغة، وبيوم الحليب الشعبي تهديه فيه وزارة الزراعة والثروة الحيوانية بقرة أو ماعزاً، لكي يشرب أطفاله حليباً طازجاً من الضرع مباشرة، وباليوم الوطني للواسطة، يستطيع فيه المواطن أخذ حقه وإيجاد عمل له وإنجاز معاملاته بأسرع وقت بلا واسطة ولا رشوة، ولا تعال بكرة، ومعاملتك مش عندنا، ويوم آخر للإذاعة والتلفزيون هو يوم الراحة العالمي، تغلق فيه الحكومات هذين الجهازين وتعطي موظفيهما إجازة براتب، فترتاح أعصاب المواطن من نشرات الأخبار ومن إعلانات أمواس الحلاقة وفراشي الأسنان وعطور شانيل وسيارات لكزس وحفاضات الأطفال، وشكولاتة الليون بار وجبنة البقرة الضاحكة.

ونترك بقية الأيام والمناسبات الحلوة لعبقرية هذه الحكومات، لتحول بذلك حياة مواطنيها إلى فرح وسرور، بمثل هذه الأيام، التي لابد أنهم سيشتركون في إحيائها وهم يضعون حكوماتهم فوق رؤوسهم، ويدبكون بها في الميادين العامة رقص وهز حتى تدمى أقدامهم.

غير أن المواطن العربي، الذي سقط شعر رأسه واحدودب ظهره وكلت أقدامه، لم يعد يطمح إلى شيء من هذا، وإن كان لا يزال يأمل بألا تفاجئه حكومته بمزيد من الإنجازات، كما فعلت إحداها فبعثت مواطنيها إلى إسرائيل لكي يتحدوها في عقر دارها، ويشتموها على الهواء مباشرة، فمدافع الإذاعة لم تعد تكفي، وطريق التحرير والنصر لم يعد يمر عبرها ولكل مرحلة تكتيك، ولكل تكتيك مرحلة، وللمواطن حرية إغلاق فمه 24 ساعة في اليوم فقط.         8/6/1993

حرية إغلاق الفم