امور اخرى

تلك الأمور الأخرى

كان آخر ثقاب في علبة الكبريت، أشعلت به السيكارة وأبقيته بين أصابعي.. اقتربت مني، لكنها ظلت صامتة، هذا لقاء يحمل الرقم …

الأضواء خافتة والليل في الخارج يمارس الهدوء والحلم. هل ستظل صامتة؟ وهي تتوقعني أن أقول أشياء إضافة لما سبق وقلته؟ لم يبق بديلاً لهذا الصمت ولتلك الثرثرة التي استغرقتنا في اللقاءات السابقة غير الحركة.

فجأة جاء صوتها متناسقاً مع السكون :

– أتذكر أول يوم التقينا فيه؟

يا للحماقة! أوظنّت أن شحوب الغرفة وإغراقها في هذا النور المنطفئ شيء مثير للذكرى والأحلام؟  أليس ذلك سبباً يثير لديها أموراً أخرى.. وأفكاراً أخرى.. وأحلاماً أخرى؟

كررت سؤالها، مؤكدة أنها تريد سحبي إلى دائرة اهتمامها وطموحاتها. صوتها هذه المرة جاء متسكعاً يتسول إجابة ما، داهمتني رغبة في الضحك. هل أقول لها إن لقاءنا لم يكن حلماً، بل كان أمراً مضحكاً و.. مشوهاً؟ أجبت :

– التقينا مثلما تلتقي قطعة خشب بأخرى وسط الماء.

راحت تحملق في الدخان المتطاير تارة، وفي بقايا الرماد في المنفضة تارة أخرى، وتحرك يديها بعصبية تحاول إخفاءها.. كان يجب أن تتوقع الإجابة.

لقاؤنا كان في عرس ما، فقد وجدت أن وجهها العذب يحرك في نفسي أشياء ليست للبوح، تبادلنا الابتسام سرقة وأرقام الهواتف كاللصوص، وارتبطنا بحب.

شباك الغرفة يسرب أطياف الضوء المتسلل إلى الداخل، حين التفت إليها كان  شعرها يغطي أحد جوانب وجهها بينما كانت عينها  التي أمكنني رؤيتها تغرق في تساؤل مرير، هل هو الوقت المناسب للتساؤل؟ كل لقاءاتنا كانت محطّ تساؤل وحيرة وتردد وحديث لا يقدم ولا يؤخر.

استطعت أن أرى الوردة التي كنت زرعتها وأثبتها في أصيص بجوار الشباك أول معرفتي بها، قطرات الندى تلمع فوق أوراقها البيضاء. انتبهت إلى أن عود الثقاب ما زال بين أصابعي، فكسرته وأطفأت السيكارة بينما وقعت في تساؤل : هل يملك الندى إلا السقوط فوق الورد عند بدايات الفجر؟ وكان التساؤل مبرراً.

صمتها لم يعد محتملاً، وحديثها لم يعد جديداً، وفعلها أمل يراود قلبي. كدت أصرخ فيها لأبدد حالة الجمود، لكنها، وكأنما أحست بمجيء الثورة، قالت همساً يقترب من البكاء :

– كنت أحسب أنك ستقول إن لقاءنا كان حلواً، فإذا بنا أخشاب!

– كان حلواً ولم يزل، لماذا الإصرار على إبقاء الحالة الواحدة؟

هل تعلم أن الظمآن يجد الماء عذباً، فلما يشرب قطرة منه يجده أكثر عذوبة؟

الليل يوشك أن ينتهي، والنتيجة تقبع في بطن الغيب، فلأشعل سيكارة أخرى، علبة الكبريت خالية، تذكرت الولاعة  التي أهدتنيها مرة. لم يكن بها غاز ملأتها فأشعلت بها السيكارة.

– انظري !

لما رأت الولاعة التي احتفظت بها طويلاً، لمعت عيناها ببريق شهي، وتوارى خلف شفتيها طيف ابتسامة مغرية. أردفتُ :

– حتى تصدّقي أنني كما كنت.

وداعة حالمة تكسو وجهها، وشعرت أن وجهي يرغب في الالتصاق بوجهها. كيف يمكن أن تمتلئ بالغاز أو بالأحلام فتشتعل؟ حالة الانطفاء المزمن، أليس من نهاية لها؟ الوردة عن الشباك  لا تزال تفتح مسامها لاستقبال حبات الندى. سألت، ولم يكن سؤالها جديداً:

– ما دمت كذلك، فلماذا…؟ ولم تواصل.

هممت أن أقول لها إن الولاعة لا تشتعل وهي فارغة من الغاز، لكني سألتها :

– هل نحن مهيأون حقاً؟

صمتت.. فَرْقعت أصابعها كأنها غاضبة ثم سألت:

– ألا تحبني؟

– أتذكرين كم مرة كررت هذا السؤال؟ وكم مرة أجبتك فيها بنعم؟

لقاؤنا الغريب لم يتح لها أن تتفهم : لا يعشق الإنسان إلا لأنه يعشق، كم مرة بحت بشوقي لها، وأنا الآن في محاولة تأكيد لذلك ثم :

– ألا يشتعل فيك الحنين إليّ؟

كيف وصلها السؤال .. لست أدري، لكنها انفعلت ببرود حين انسحبت إلى الوراء وعلى جبينها التمعت أنوار الصباح الأولى.

– ماذا سيقول الناس إن حدث ذلك؟

قالت ذلك مراراً، وبدا لي لحظتها أن عبارة : الحب أقوى من الناس لا تغير موقفاً قديماً عاشت عليه.

حين أطلت الشمس، كانت قطرات الندى تتلألأ فوق جسد الوردة، ورغم ذلك قررت أن أقول لها تلك الجملة.

نهضت دون أن تقول كلمة واحدة، وخطت نحو الباب، وقبل أن تخرج كانت كلماتي تصلها :

– الحب أقوى .. وأنت لست عود ثقاب!

لكنها أغلقت الباب خلفها دون أن تلتفت.

في هدوء تام رحت أشعل الولاعة مرة بعد مرة حتى لم تعد قابلة للاشتعال.

تلك الأمور الأخرى