سحب المخدة، ألقى بها تحت رأسه، تمدد فوق السرير وفتح الجريدة. قرأ سطرين ثم انطلقت منه زفرة ممتعضة، ألقى بها بعيداً وانقلب على جنبه الأيمن، طفقت عيناه الفاترتان تثقبان جهاز الراديو الذي راح يثرثر في بلادة. قام إليه، أخرسه بلطمة من يده، وبتلقائية يغشاها البرود نظر إلى الساعة في معصمه. الثانية والنصف إلا خمس دقائق. جلس على حافة السرير معتمداً رأسه بين يديه.
الخميس، وأمامه صحراء زمنية شاسعة ومشحونة بذرات السأم، عليه أن يقطعها وحيداً حاملاً نفسه وبكل جرأة، رأسه خالٍ من كل شيء، أين ذهبت الأفكار التي كانت تلهب عقله بسياط من نار، هل تلاشت واندثرت في صحراء اللا شيء؟ الخواء في داخله لا حدود له وأمامه أيضاً على امتداد البصر، كل شيء صامت في داخله ومن حوله، تمثال من الرخام البارد في متحف قديم.. حتى الهاتف في حالة إضراب اليوم، بإمكانه أن يدير قرصه متصلاً بصديق ما، لكنه لا يشعر برغبه في الكلام، وتلك الفتاة اللعوب التي تعودت أن تتصل به في مناسبة أو غير مناسبة.. لا .. لا يشعر برغبة في التحدث إليها، كلامها منذ البداية ممجوج ومائع، إنها مجرد حلم ماجن وبذيء بالنسبة له.
– أتحبني؟
– كيف أحب فتاة لم أرها؟ حتى اسمك بت أشك فيه.
– أنا لا أكذب، وأوصافي كما ذكرتها تلك.
– طويلة، لا نحيلة ولا سمينة، شعرك أسود وعيونك عسلية.
– أراك تعرف أوصافي .
– التكرار يعلّم الحمار.. وفوق هذا تلبسين “الهاف”([1]) ، ولا تحبين السروال. لأنه موضة قديمة كما تقولين.
– يا لجرأتك الوقحة!
– هذا ما قلته بنفسك .. أتنكرين؟
– لكن .. لا تذكرني به دوماً.. ترى فيمَ تفكر؟
– لا عليك؟
– لماذا؟
– أخشى عليك أن تحترقي أو تذوبي في لهيب أفكاري.
– الله ! أنت فيلسوف! أرجوك ألا تحرقني إذن.. هل تحبني حقاً؟
واندلقت بسمة كابية من بين شفتيه. أي مغفل كان وأية سخيفة كانت!
أشعل سيجارة، تابع الدخان الزاحف في الهواء بفتور وأسى، لا بد أنها تجد تسلية رغم الكلام المكرر المعاد.. مسكينة! قام إلى جهاز التسجيل، طمس في أحشائه شريطاً، تدفقت موسيقى صاخبة اكتسحت بتيارها حجارة الصمت في وادي الضجر والكآبة، أخذ يحرك يديه ورأسه مع الإيقاع حركات فقدت أي معنى، سخر في أعماقه من نفسه، كل شيء صار مستهلكاً، حتى هذه الموسيقى التي كان يعشقها أيما عشق، صارت باردة لا حرارة فيها.
ثبت غترته وعقاله على رأسه، وألقى نظرة أخيرة وسريعة على وجهه في المرآة، التقت عيناه بعينيه في شوق وعتاب، افترّت شفتاه عن بسمة صفراء ميتة وهمس:
“كم أشفق عليك”. أوقف تدفق الموسيقى، وألقى نظرة على مكتبته الصغيرة التي يملأ أركانها الغبار وتتناثر الكتب بين ألواحها في غير نظام، رصدته هي أيضاً بنظرات أسيفة، لكنه لوى بوزه وخرج.
أصاخ لهدير العجلات فوق الأسفلت، الشارع طويل تكتنفه المرارة، اصطفت على جانبيه أعمدة النور ومن ورائها المعارض الكبيرة، سار ببطء يتلذذ بمراقبة السيارات المارقة على جانبيه، وانعطف إلى دوار ثم أشعل سيجارة وهو يجتاز دوار الساعة، سقطت حزمة ضوئية على عينيه، وبآلية أسدل الواقي أمامه، العمارات على مدّ البصر تعلو حيناً وتهبط حيناً، منظر مستهلك وبارد، تعب من رؤيته. لمح عمارة ضخمة تشاد هناك، حدّث نفسه : “لا جديد” .. ومضى، متأسفاً على أعماقه الخربة من الداخل من يصلحها؟ ووقف عند إشارة المرور الحمراء.
انتفضت أمه في ثيابها الخضراء واستقرت على الزجاج الأمامي.
– كبرت يا سالم.
– عدنا ثانية.
– شريفة كبرت أيضاً.. وأخشى عليك سوء الوحدة.
– لكنه من المستحيل أن أتفاهم معها.
– مثال للرصانة والأنوثة، وفوق هذا تجيد خدمة البيت.
– تتكلمين بلغة ميتة يا أمي.
– عدت إلى جنونك.
– سمِّه ما شئت.
– كتبك أفسدتك، تسجن نفسك معها ساعات حتى كدت تجن.
– يحلو لي ذلك.
انبعثت أبواق السيارات صارخة من خلفه. لمح الإشارة، تحرك مع طابور السيارات، دخل قلب المدينة، داهمه الغثيان حين رأى مطعماً غربياً يقوم على الناحية، قد اعتاد ارتياده في الماضي، أما اليوم، فإنه مثل كل شيء، بارد ولا حياة فيه. سار بحذاء الخور، وجعل يردد أغنية قديمة. “العبرات”([2]) المكتظة بالركاب، والعمارات الشاخصة إلى السماء في بلاهة، والشارع الغاص بالمارة والسيارات، وأشرعة السفن تعانق الفضاء بشوق عارم، واصل ترديد الأغنية، وفي فمه تكدس طعم كالرماد. كل شيء ميت، لا جديد إطلاقاً، الطرقات البكماء جابها كلها حتى لفظتها نفسه، عيناه تنقبان عن جديد، يريد شيئاً آخر، يتفجر في داخله نهراً، ويغير مجراه .. كل شيء احترق به مليون مرة ولا جديد.
ابتلعه النفق لحظات ثم تقيأه على الضفة الأخرى، استوقفه عدد من الإشارات الضوئية، ورثى في داخله لنفسه وللآخرين.
وجد نفسه دون سابق إحساس في طرقات طينية رملية. البيوت على جانبيه ومن أمامه أكداس من الصفيح والخشب يغطيها الغبار، صغار هناك راحوا يتقاذفون كرة، الحزن يهطل من عيونهم المحمرة، سحب آهة وابتسم في مرارة، كل شيء هنا كالح وحزين، البيوت تنزف أسى صامتاً، والطرقات الطينية بليلة بدموع الصغار والعجائز. حقائق لا تجلب الراحة أبداً.
جال ببصره في سيره المتباطئ بين الأزقة في ارتياب، أوقف السيارة حالما لمح عدداً كبيراً من الرجال يروحون ويجيئون هناك، ترجَّل، ومشى، غاصت قدماه في الطين فاغبر نعله الأبيض. ابتلعه زقاق رملي قذر فاح من جوانبه عطن بول، اصطدمت عيناه بباب مغلق جلست على دكته عجوز داكنة السواد في ثياب فضفاضة، الكلب يعفر نفسه في التراب عند قدميها، حسبها مجنونة أو نصف مجنونة وهي تقول :
– “ما في لحم اليوم، باكر إن شاء الله”.
جرجر نفسه، الشمس تلعن المكان بضربات حامية، في العطفة الثانية تجمّع عدد من الرجال حول باب. هنود و”باتان”([3]) ومواطنون ملتحون. الجو حار وخانق ولا أحد يهتم، المكان يضج برائحة العرق والأنفاس اللاهبة المعربدة. اشرأبت عيناه، هربت منهما نظرة للداخل، لوزة هرمة تحتل الوسط، في الركن حجرة خشبية لمح فيها جزءاً ظاهراً من سرير متهدم، هز رأسه الخالي، واكتشف حقيقة ما قالته العجوز، وغاص قلبه في الطين. من الباب المجاور تنطلق موسيقى صاخبة، امرأة بالباب تدخن، لاحظ أن لون السيجارة لا يناسب لون شفتيها الممصوصتين، كل شيء في تنافر عجيب.
طفا يحمله النهر الذي تدفق في داخله، ليت أحداً يبني عمارة جديدة ومن نوع آخر في داخله بدلاً من هذا الخراب الذي يعشش فيه. انعطف به النهر إلى جهة أخرى، رأى أبواباً كثيرة مشرعة تنادي في لهفة مستباحة غير خجلى. رجع على عقبيه، ألقاه التيار على ضفاف أول باب، غادره المتجمعون، تسللت عيناه القلقتان، اشتبكت مع عينيها في معركة رجحت فيها كفة المرأة بأثدائها البارزة فانتصرت.
ولما خرج رأى جمعاً من الناس. نظراتهم تلسع وجهه إنهم يضحكون، ماذا يضحكهم؟ أسرع الخطى، وانطلق. روائح كريهة تقتحم السيارة وتزكم أنفه، فتح النافذة، لكن الروائح لا تزال تركض في أعماقه المحطمة، كيف التقت نيران جحيمة بثلوجها؟ عند آخر إشارة مرور اضطر للوقوف، السيارات الفارهة لعنات على جانبيه، والناس فيها حقول من المرارة والسخرية والندم. ها هم يثقبون دواخله بنظراتهم الحادة والخالية من الرحمة. يضحكون في سخرية، يعلو، ضحكهم ويعلو، يتلافى عيونهم الجارحة، لكنه يسمعهم يقهقهون، اقتحمته مرارة طاغية، وصرخ صامتاً:
– ماذا يضحككم يا أوغاد.. كفى.. كفى..
المغيب يزحف بإصرار، ترجّل من السيارة قرب البيت، شعور بالقهر المدمر والضياع والانسحاق يندفع إلى نفسه، من يبني في داخلي عمارة؟ وكاد يقع.
– سالم .. أين كنت؟ بحثت عنك في الراشدية كلها.
ندت عنه شهقة، التفت وراءه، خليفة آتٍ من قريب، لكنه لا يضحك مثل أولئك الأوغاد، ربما يشرع في ممارسة الضحك بعد حين. أخذ يجري في جنون، توارى خلف الباب، صوت خليفة يصك أسماعه.
– سالم .. ما بك يا سالم؟
دلف إلى غرفته، خلع ثيابه في سرعة البرق، ثم ألقى بنفسه تحت رشاش الماء البارد.
دخل عليه خليفة وهو يندس في الفراش.
– ما بك يا سالم؟
– لا شيء، يبدو أني تناولت وجبة فاسدة، وقد شعرت بالقيء يملأ جوفي ويكاد يطفح، حين لمحتني.
ثم التفت إلى أمه وآثار السموم تكتسح تعابير وجهه.
– متى تريدين أن نذهب لبيت عمتي، كي نخطب شريفة؟
[1]) “الهاف” : لباس داخلي.
[2]) “العبرات” : جمع عبرة وهي القارب المستعمل في دبي لعبور الخور.
[3]) “الباتان” : جماعة من القبائل الباكستانية المنتشرة في الإمارات.
رائحة العطش