عبد الحميد أحمد

التقليد فيما يضر

قرأنا أمس أن بناطيل الجينز الضيقة تسبب مشكلات صحية للشباب والبنات، ممن يفضلون ارتداء هذه

النوعية من الملابس، منها إمكانية تسببها في العقم بالنسبة للشباب.

وبما أننا غير معنيين بمثل هذا الكلام حالياً، فشبابنا وشاباتنا لم يتحولوا بعد إلى الجينز وفي هذا نعمة، فهم قد سلموا على الأقل من آفة أخرى، غير أن دولة مثل سنغافورة، لن نستغرب منها إذا أصدرت غداً قانوناً أو فرماناً يمنع ارتداء الجينز.

فمن بين دول العالم تنفرد سنغافورة وحدها، باهتمامها في مجال التشريع والقوانين، بكل صغيرة أو كبيرة تمس حياة مواطنيها، أو تهدد سمعتها كبلد متحضر حديث، نهض في فترة قياسية من مستوى المستنقعات والأكواخ إلى مستوى ناطحات السحاب والصناعة والتقدم والرفاهية.

فإذا رأت في أعقاب السجائر التي يرميها المدخنون بلا مبالاة في الشوارع وعلى الأرصفة وفي المرافق العامة تلويثاً وضرراً أصدرت ما يمنع ذلك، ويعرض مرتكبيها للغرامات والعقوبات، وهكذا لم تترك السلطات هناك، أياً من المظاهر السلبية إلا لاحقتها بالشرطة والعصا والإعلام والإرشاد، حتى لم تسلم منها العلكة واللبان في أفواه المراهقين والمراهقات. فاعتبرت نتيجة للضرر الذي تلحقه بالقطارات والباصات والمرافق الأخرى، تجارتها محرمة، وعلى المستوردين الامتناع عن استيرادها.

وعلى ذلك، فإن كل من يزور هذه الدولة تفتنه بنظافتها ورونقها وانضباطها مثل الساعة، فالقانون فوق الجميع، يتساوى في ذلك الوزير الذي يرتشي دولاراً فيفقد منصبه ويسجن لذلك، والصايع الذي يرمي مستهتراً عقب سيجارة أو قصاصة ورق على رصيف، فتقوده الشرطة إلى المخفر ليدفع الغرامة ويتلقى العقوبة.

وآخر قانون أصدرته، كان منع المحلات من بيع السجائر لمن هم تحت سن الثامنة عشرة، فعند سنغافورة، وهي بلد الحرية أيضاً، أن الحرية لا ينبغي لها أن تصل إلى حد معارضة أو نقض المصلحة العامة للمجموع وللوطن، وألا تضر أيضاً بالآخرين بما في ذلك الأفراد أنفسهم، الذين كثيراً ما يحتاج بعضهم إلى حمايتهم من أنفسهم.

عندنا، لم نصل بعد إلى مستوى يتيح لنا أن نصدر قانوناً عاماً على مستوى الدولة يمنع التدخين في الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات العامة، على الرغم من حديثنا المتكرر على آفات التدخين ومضاره، وفوق ذلك يستطيع عندنا أي صبي، من طلاب المدارس أن يشتري من أي بقالة علبة السجائر التي تروقه، دون أن يعاتبه أحد، فهو حر.

وعندنا يقود السيارات صبيان لم يخرجوا من البيضة بعد، ويسودون زجاجها ويهيمون في الطرقات يضايقون النساء دون أن يردعهم أحد، فهم أحرار.

ولو عددنا مثل هذه الممارسات، علاوة على ما تتعرض له مرافقنا العامة من تلويث وتشويه، لما انتهينا، إذ تحولت إلى ممارسات يومية ظاهرة للعيان، بعضها يستفحل ويكبر، فيقفز بها هؤلاء ممن لا يجدون رادعاً، إلى ما هو أسوأ، كالمخدرات مثلاً وتعاطيها وترويجها.

وكل هذه الأعمال المشينة في حق مجتمعنا يمكن ضبطها بالقانون الملزم، فما الذي يمنع مثلاً من وقف إصدار تراخيص القيادة لمن هم تحت سن الخمس والعشرين، ما دام هؤلاء ليسوا على قدر المسؤولية؟ وما الذي يمنع مثلاً منع الزجاج الملون على السيارات المحجبة التي تجوب الطرقات كأنها مركبات فضائية؟

ولا نعرف لماذا ونحن نستورد من العالم، بما في ذلك سنغافورة، كل شيء من الأبرة وحتى السيارة، لا نستورد منهم ما يفيدنا من قوانين وتشريعات وتجارب، أم أن تقليد الآخرين لا يكون إلا فيما يضر، وفي الأسوأ مما عندهم؟ 

16/6/1993