تصور بعضنا أن الأوروبيين لزموا ليلة أول أمس بيوتهم، وامتنعوا مساء من الذهاب إلى الحانات والأسواق، وانهمكوا في سد الشبابيك والأبواب وكل شرخ في جدران بيوتهم بأوراق النايلون وهم يرتعدون خوفاً من الكيماوي الذي هددهم به قائد بوسني محاصر في مدينة توزلا.
فهل يعقل يا جماعة، أن البوسنيين الذين لا يملكون سكاكين ولا بنادق صيد طيور للدفاع عن أنفسهم وعن أطفالهم ونسائهم، بعد أن منع عنهم السلاح بأمر دولي، يملكون أسلحة كيماوية ستحرق أوروبا، كما هدد هذا القائد؟
وواضح طبعاً من مثل هذا التهديد، الذي نسميه فشخره، ويسميه إخواننا اللبنانيون تفنكة، والمصريون فشنك، أنه تعبير عن يأس قاتل، لا أكثر، ومن كان في حالة البوسنيين المضطهدين تحت بصر وسمع العالم اليوم، لا شك يموت قهراً ويأساً، قبل موته بالرصاص.
وذكرنا تصريح هذا القائد، بالرجل الذي سرق لصوص في إحدى القرى سرج حماره، فهدد وتوعد في حشد من أهل القرية قائلاً: إذا لم يعد إليّ السرج مع مغيب شمس هذا اليوم، سوف أتصرف، فما كان من الأهالي الذين خافوا وارتعدت فرائصهم من مغبة انتقامه أو رد فعله إلا أن ألقوا القبض على اللصوص وأعادوا إليه سرجه، ثم سألوه: ماذا كنت تنوي أن تفعل لو لم يعد السرج؟ فرد عليهم: أبداً، كنت سأشتري غيره.
غير أننا، لا نسخر اليوم من إخواننا المسلمين في البوسنة، على ما هم فيه من بلاء وكرب، فحالهم ينطبق عليه اسم التراجيديا الأرضية، والمأساة الكونية في ظل النظام العالمي الجديد الأقرع والأحول، خاصة أن المؤامرة ضدهم تتضح أبعادها يوماً بعد آخر.
فمن دولة مستقلة معترف بها، وعضو في الأمم المتحدة، ولها ممثل في المنظمة الدولية وسفراء في الخارج، ورئيس وحكومة وشعب وأرض في الداخل، ومن حقها أن تنال استقلالها كما نالت الجمهوريات اليوغسلافية هذا الحق، بحكم القوانين والشرائع الدولية لحقوق الإنسان وتقرير المصير، تحولت قضيتها بفضل المبادرات الأوروبية والمجاملات الدولية والصمت العالمي وعجز الأمم المتحدة ومن وراء كل ذلك عجز المسلمين، إلى مجرد جیوب آمنة، لحماية اللاجئين، لم تسلم هذه من القصف والتنكيل، رغم وجود أصحاب الخوذات الزرق على مشارفها.
ومن جيوب آمنة انزلقت إلى مشروع ثلاث دويلات، ومن هذا المشروع الموبوء، يطلع اليوم حديث عن مشروع دولتين، صربية وكرواتية تنضمان كونفيدرالياً إلى صربيا الأم وكرواتيا الأب، فيما المسلمون خارج اللعبة، وقريباً خارج بلادهم، لاجئين في أصقاع الأرض، شمالاً وجنوباً، على خطى أصحاب المخيمات من جماعتنا الفلسطينيين.
وعما قريب، ستكون لهؤلاء مخيمات لاجئين في دول الشتات، وستكون لهم منظمة تحرير بمجلس مركزي وآخر ثوري وثالث تنفيذي، وبجبهات وطنية وأخرى ديمقراطية وثالثة شعبية ورابعة قومية وخامسة رجعية، وستعقد لها مؤتمرات وندوات وستصدر لها قرارات وبيانات، وفي الختام سينتهي كل ذلك إلى حكم ذاتي أو أقل من ذلك، وتعال يا ولد اتفرج على قضية فلسطين أخرى خلال الخمسين عاماً المقبلة.
ومن مشروع تقسيم فلسطين إلى محادثات الحكم الذاتي الحالية زاد العرب مائة مليون آدمي وآدمية، وزاد المسلمون ملياراً، وزادت الدول العربية المستقلة بمقدار الضعف، وزاد مثلها عدد الدول الإسلامية، ومع ذلك نقصت قضيتهم المقدسة إلى أقل من الربع والثمن، وصارت مجرد أشبار من الأراضي هنا وهناك، عليهم أن يلحقوا قبل أن تتبخر وتضيع.
لذلك، لو عطس المسلمون المليارين في العالم عطسة مشتركة واحدة، لسمع دويها العالم ولهرب الأوروبيون من زوجاتهم خوفاً وذعرة، ولحدثت فيضانات وانهيارات وعواصف وزوابع في كل الكرة الأرضية، أكثر مما سيحدثه سلاح القائد البوسني الكيماوي، لولا أن أنوفنا لم تعد تعطس وصار يكفيها من الجهاد مجرد الشم. 21/6/1993
لو يعطس المسلمون – عبد الحميد أحمد