السباحة في عينيّ  خليج يتوحش

السباحة في عينيّ خليج يتوحش

أمي ترقد في ظل العريش، وأبي حمل “المخرفة”([1]) وولّى وجهه صوب النخيل، شمس الضحى ساطعة حارقة، والظل ينحسر رويداً رويداً وأنا أنسحب مع خليفة الذي كنت في انتظاره، ثم رحلنا صوب البحر، خليفة إزاره أزرق وأنا فستاني أزرق، والبحر أزرق والسماء زرقاء.. خليفة أطول مني قليلاً، ونحن سائران أخذ يدي في يده وجرينا.

(2)

في صيف آخر، غادر أبي وأبو خليفة إلى الغوص. تركونا مع العريش وحر الصيف والوحدة والانتظار.. طال الانتظار..  وطال.  وصرنا ـ أنا وخليفة ـ يتيمين.

(3)

خليفة يكبر بسرعة.. يعمل في النخل مع عمه، وأحياناً في البحر، وأنا كبرت أيضاً، جدائل شعري صارت أطول ، وكذلك ساقاي ويداي، وعيناي اتسعتا وكذلك عينا خليفة، منعتني أمي من الذهاب إلى البحر كما كنا نفعل، افتقدت الأزرق..  ولكني تعلمت السباحة في عيني خليفة السوداوين.

(4)

جاء يخطبني، وافقت أمي، فقد نشأنا يتيمين وتبادلنا الحنان مبكراً، أصبحت عروسة تنتظر رجلها المكافح. وكنت سعيدة في زواجي.

(5)

خليفة الآن يعمل في الجيش، لكن الحزن صار يكسو وجهه، وأنا  مستمرة في السباحة في عينيه، جاءني يوماً سوداوي الملامح فسألته:

– ما بك؟

– الأمور لا تدعو للراحة.

– كيف؟

– كل شيء يتحرك ضدنا ونحن ساكنون؟

– كيف؟

– أخشى على ولدينا.

– كيف؟

– في الماضي، عرفت وإياك اليتم، وعرفنا جميعاً معنى البؤس ومعنى أن يسرق البحر الأب، و…

(6)

ولدانا محمد وسالم يكبران.. ويتعلمان في مدرسة، وينافسان أباهما في حبي، أتذكر العريش أحياناً وأمي الراقدة في الظل، وأبي حامل “المخرفة” المتجه صوب النخيل.. فتغرورق عيناي بالدموع.. وأفكر في كلام زوجي.

(7)

– معنى أن يسرق البحر الأب..

– الوحوش تحوم حولنا، تعبث في المياه مثل سمك القرش.. كان البحر بريئاً ورغم ذلك خطف أبي وأباك..

– …..

– اليوم عاد البحر ليمارس هواية الخطف والقتل..

– كيف ؟

– ألم أقل لك إننا ساكنون لا نتحرك.. غيرنا يتحرك، فتحوا له الأبواب والمنافذ فجأة ليبتلع.

– من تقصد؟

(8)

يثير في نفسي الذعر، يسكت دائماً، ولكنه يظل مذعوراً في الداخل، عيناه خليج متوحش ومضطرب، صرت لا آمن السباحة فيه، ويتساءل خليفة :

– كيف سمحوا لهم بالمجيء؟ كيف فتحوا لهم الشطآن الآمنة؟

–  من ؟

– أساطيلهم المحملة بعدة الدمار والخراب تربض قريبة منا، ونحن ساكنون… في الجيش يطلبون منا أن نكون مستعدين دائماً.. كيف يطلبون منا ذلك وهم يفتحون الأبواب للخطر؟

– خليفة.. عيناك فيهما أشباح الخطر، هل أنت خائف؟

– لست خائفاً.. لا أريد فقط أن يعيش ولدانا يتيمين كما عشنا.

(9)

صباح ذات يوم احتضنت محمداً وسالماً، وحين انفتح ينبوع الدموع في مقلتي تساءلا ببراءة..

– لماذا تبكين يا أمي؟

غصت في صمت وبكاء، فكررا سؤالهما، وأضافا:

– هل جرى لأبينا شيء ما؟

(10)

خليفة قرر أن يترك الجيش ، هكذا فاجأني :

– وأين ستعمل ؟

– سأجد عملاً آخر.

– والبحر.. والخطر القادم !

– سوف أكون في مكان يسمح لي بالدفاع بحرية وجرأة.. لن أترك  محمداً وسالماً يتيمين بسبب أخطائنا.

(11)

رغم الشقاء الذي عانيناه سابقاً، إلا أنني أعيش عمري مليئاً وصادقاً مع خليفة.. عاودت السباحة في عينيه.. وتذكرت أيام كنا نسبح في البحر وحيدين..  يأخذ يدي  ويلصقها في يديه ويلوي ذراعي أحياناً، وأحياناً يخطف مني قبلة لا يقصد منها شيئاً، وحلمت بالأمن وأنا أرمي رأسي فوق صدره النابض ألماً وصدقاً وإحساساً، وحينما كانت الدموع تزحف فوق خدي في ظلمة الليل سمعته يردد بذهول :

–  النخيل .. النخيل .. النخيل!

من المجموعة القصصية (السباحة في عيني خليج يتوحش)

[1]) المخرفة : قفة من سعف النخيل كان يوضع فيها البلح.