هل يمكن أن يسير السودان على خطى الجزائر فيشهد حرباً داخلية وإرهاباً وعنفاً وفوضى؟ الاحتمالات واردة بما فيها الأسوأ، ذلك لأن الترابي وجبهته يملكان على الأرض قواعد وعناصر، بعضها متدرب ومتمرس، وله مؤيدون من الاسلاميين، ما يمكن أن يحول السودان إلى ساحة صراع مفتوح، خاصة بعد تلويح أنصاره بالجهاد حتى آخر زقاق .
طبعاً جهاد الأزقة ونضالها وكفاحها، والحرب من شارع الى آخر ومن زقاق إلى غيره عرفناه طويلاً في بلد عربي هو لبنان، دفع له ثمناً باهظاً هو دماء من أبنائه مع تعطيل مسيرة تنمية وتخريب بنية تحتية بالكامل، وذلك بعد تعطل مؤسسات الدولة الرسمية ودخولها في نفق أزمات متصلة، جعلت صوت الميليشيا بالمقابل يعلو عليها ويحل محلها سنوات طويلة، هي عمر الحرب الأهلية في لبنان.
وعلى الطريق نفسه تقريباً سارت الجزائر سنوات وإن أقل من لبنان، عرفت فيها حرب الأزقة إياها والقتل والتفجيرات والانتهاكات بأبشع صورها، حين عطلت الدولة نفسها هذه المرة بعض مؤسساتها كالبرلمان وبعض الأحزاب، فاندلعت فيها نيران الفتنة الاهلية، ولولا بقية من جيش قوي في الجزائر، هو طرف أحياناً في اللعبة، لما أمكن لملمة البلد الذي صار يتشظى تحت الأبصار وفي وضح النهار.
وهكذا فسيناريو كل من لبنان والجزائر، وربما الصومال أيضاً، قابل للتكرار بطريقة أو بأخرى في السودان هذه المرة، خاصة أنه يعاني منذ سنوات من انشقاقات وتشرذم وحرب داخلية في الجنوب وخلافات حزبية علاوة على اوضاع اقتصادية صعبة وعلاقات خارجية متأزمة، ما يجعل بيئة الفتنة فيه جاهزة ولا يحتاج قشها إلا لمن يصب عليه الزيت ثم يشعل عود ثقاب.
وعليه فإن خطوات الرئيس البشير الأخيرة بحل البرلمان وإعلان الطوارىء ثلاثة أشهر، ربما تكون القش الذي ينتظر عود ثقاب الجبهة الاسلامية بزعامة الترابي، فيكون الحليفان السابقان اللذان استوليا على الحكم الديمقراطي، يقودان البلد هذه المرة إلى ما هو أسوأ، في حال اشتعل فيه حريق كالذي نتخوف منه، في صراع واضح منه تماماً أن مصالح البلاد والعباد آخر ما يدخل في أجندته، وإلا فإن هناك ألف وسيلة أخرى، غير الانقلاب والانقلاب على الانقلاب، يمكن عن طريقها ترميم الخلافات وإعادة الوشائج السياسية الى طبيعتها السليمة.
وما يجعل مثل هذه المخاوف تطل بقرونها وأنيابها هو أن البشير لم يعلن عمليا عن برنامج عمل وطني للمستقبل، فهو اكتفى بحل البرلمان لإقصاء الترابي وجماعته وفرض الاحكام العرفية، من دون ان يقدم حتى الآن خطة وطنية بديلة، كالدعوة الى انتخابات برلمانية عامة جديدة بعد ثلاثة أشهر مثلا بمشاركة كافة الاحزاب، بما في ذلك المعارضة في الخارج، ومن ثم تشكيل حكومة شرعية، وهكذا، وإلا كان البشير صادقا في رد الامانات الى أهلها.
وبما أن المخاطر الفعلية موجودة، فإنه لايكفي ان تعلن بعض أحزاب المعارضة أو الدول مساندتها للبشير وترحيبها بما اتخذه من خطوات، بل المطلوب هو أن يقدم البشير أيضاً موقفاً واضحا يحمي البلاد من مخاطر الانشقاقات والعنف الداخلي عن طريق برنامج عمل يسرع خطوات المصالحة الوطنية ويعيد السودان إلى مساره الديمقراطي فوراً، وبحيث لايتكرر درس الجزائر، فتضيع على السودان سنوات أخرى يغرق فيها في العنف والدمار، ثم يستيقظ ليبدأ من جديد من حيث بإمكانه أن يبدأ اليوم. عبدالحميد أحمد
عبدالحميد أحمد
التاريخ: 16 ديسمبر 1999