… إذن مشكلة مصير ومستقبل الآلاف المؤلفة من أعضاء الميليشيات التي يتم تسريحها هذه الأيام في لبنان تنفيذاً لاتفاق الطائف، تنغّص على اللبنانيين فرحهم بعودة الهدوء والسلام إلى بلدهم الذي لا يجدون وصفاً لجماله ولأيامه الخوالي أحسن من «لبنان الأخضر» الذي تحول على أيدي الميليشيات إلى سخام أسود، وقاع صفصف.
وقلنا أمس إن فكرة استيعابهم في الجيش غير مقبولة لدى أبناء لبنان لأنهم يخافون وضع حياتهم وأملاكهم في حماية لصوص وفارضي خوات، ومعهم حق في ذلك، واقترح آخرون دمجهم في مؤسسات الدولة كعمال وموظفين، لكن هذا الاقتراح نفسه بدا غريباً ومرفوضاً عند بعض اللبنانيين، لأنه من غير المستساغ مكافأة هؤلاء على ما اقترفوه طيلة الحرب الأهلية بدفع رواتب لهم من الدولة، في حين أن المفترض محاسبتهم على تدمير الدولة.
ساعد على صعوبة تنفيذ هذا الاقتراح أن ميزانية الدولة المنهارة لن تستطيع تحمل أعبائهم، فظهر رجل الأعمال اللبناني الشهير، رفيق الحريري، وبصفته فاعل خير دائماً، باقتراح دفع مرتبات هؤلاء الميليشياوية حلاً للمشكل من جيبه الخاص، لكن وليد جنبلاط بحكم كونه ميليشياوياً عتيداً متمرساً رفض، إذ ماذا لو دان كل هؤلاء للحريري بالولاء؟ عندها سيصبح فاعل الخير هذا أقوى من الدولة وجيشها، إذ سيكون زعيماً لكل الميليشيات اللبنانية المتحاربة بالأمس، بكل تياراتها وانتماءاتها، وفي هذا انتصار سياسي له، فيما هو خسارة أكيدة لكل زعماء الطوائف والميليشيا الذين وجدوا أنفسهم بعد ١٧ عاماً من القتال والعنف مهزومين وخاسرين جميعاً، مع أن بعضهم يتكلم عن انتصارات على سنة صاحب «أم جنجال»!
… كل الحلول غير مقبولة بما في ذلك اقتراح الحريري، فما العمل مع آلاف الميليشيا الذين سيجدون أنفسهم في الطرقات بلا عمل ولا معاشات؟ هل تتركهم الدولة لضمان معيشتهم يتحولون إلى لصوص ومروجي مخدرات ومنغصي أمن الناس، وهي مهن يجيدونها جيداً؟
لا أريد التدخل في شؤون لبنان الداخلية، مع أنه لم تبق دولة عربية أو أجنبية لم تتدخل في شؤونه، لكنني أقترح على إخوتنا اللبنانيين المقيمين عندنا أن يتبنوا فكرة أن تنشئ الحكومة اللبنانية مدارس وإصلاحيات يمولها الحريري وغيره من أثرياء لبنان، لكي يتعلم فيها أفراد هذه الميليشيات من على مقاعد التلاميذ القراءة والكتابة والرسم والموسيقى ابتداءً من «بابا وماما» حتى منهج التربية الوطنية لعلهم بعد ذلك يكونون صالحين للحياة الجديدة، ولعل أثار سرطان الميليشيات تتوقف في زمن السلم ومعها تكتمل أفراح اللبنانيين بعامة، فيستطيعون السهر على صوت فيروز دون خوف أو قلق!
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.