فرحان

أبطال على حافة النهار – بقلم فرحان ريدان

على حافة النهار عنوان مجموعة قصصية للكاتب الإماراتي عبدالحميد أحمد الذي أسهمَ مع غيره من كتاب وكاتبات الإمارات في إثراء المشهد السردي العربي سواء في فن القصة أو فن الرواية.

تبحث هذه المداخلة الملامحَ الفنية والجمالية في قصص /  على حافة النهار / وتتوقف في شيء من التفصيل عند شخوصها / أبطالها ، وتعتمدُ الطبعة الأولى للمجموعة الصادرة عام 1992

عن إتحاد كتاب وأدباء الإمارات .

الرؤى والسرد :

( وإذْ صحَتْ من نومها ذات صباح هتفتْ أم عبدالله مذعورة : ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أعوذ بالله من كل ذنب عظيم … أي حلم هذا ؟ ” . وبدأتْ تسرد لنفسها الحلم المرعبَ الذي رأته وكان النسيانُ قد ضرب جداراً إسمنتيا مصفحاً بالحديد والكونكريت حوله، لقد رأتْ فيما يرى النائم جمجمة محمد صالح قد تهشمتْ فوق الطريق وتناثرت شظاياها وكان الدم القاني يسيل مرتعشاً على الإسفلت الساخن الأسوَد فيما سيارة داكنة تغيبُ في المدى  ) ص9

هذا مطلع قصة خروفة ، أول قصة في المجموعة. وفي قراءة متأنية لهذا المطلع نلاحظ أن الحكاية قد بدأتْ قبل دخولنا إلى الحكاية ، كأنْ ندخل السينما متأخرين قليلاً ، وأن بداية القصة خارج النص ،وأن هناك الكثير من السرد قبْلَ النص ، وبعده، وهذا السرد المحجوبُ ،في حذاقة، خارج النص  سردٌ مُضمَرٌ ولكنه ليس عصياً على قارئ يقظ خاصة وأن طاقة الإيحاء في النص تحرض مخيلة القارئ ، كأن القصة شريط سردي انتخبَ الكاتبُ جزءاً منه ، قصَّ هذا الجزء ، حذفَ، أو حجبَ ما قبله وما بعده ، عنونَ الجزء المنتخبَ خروفة ،وقرر أن يعرضه على القارئ، لكنه توقف قليلا وأعاد النظر في قراره ثم قام ،من جديد ، بعملية قص ثانية ولكن هذه المرة من الشريط المنتخب مواصلا بذلك تقانته السردية:

 ( … ولم يكن إلا خرافة حقيقية ، هكذا تحوَّلَ من إنسان إلى بقرة، وهكذا كان يشير بإصبع على أية حشرة تمرق من أمامه فتجمد جمود الموت ) ص 10

النقاط الثلاث التي تلي القوس الأيمن من أصل النص : ها هنا حدثتْ عملية القص الثانية .

ومن شأن هذه التقانة السردية ، الحيوية والطريفة ، أن توقظ الأسئلة في ثنايا نفس القارئ وأن تجعله يتخيَّلُ ويفكر في مصائر البشر وفيما حدث قبل وبعد النص:إنها تتيحُ للقارئ أن يُسهمَ في بناء الحكاية

وفي هذه الإتاحة ثقةٌ بذائقة القارئ، واحترامٌ لمخيلته ، وحوارٌ معه ، وتشيرُ هذه الإتاحة ، أول ما تشير، إلى أصالة الرؤى الفنية لدى الكاتب.

ويتصل بسؤال السرد : موقع السارد . فقصة غواية تبدأ هكذا:

(لا يعرف منذ متى بدأ يحلم بالماء .كان يمشي في البداية مسرعا الى البحر. هكذا رآه الآخرون، وحين رأوه عقدت الدهشة ألسنتهم إذ فجأةً سقطتْ إحدى يديه في الطريق ) ص65

وهكذا تبدأ قصة الصدى : (هكذا خرجوا دفعة واحدة ،وتركوه وحيداً .كل الأصوات والعيون والأنفاس غادرت المكان. بعد الحشد والضجيج والصخب ساد صمت فجائي بدأ يسمع خطواته المقبلة)ص71

أما الطائر الغمْري فتبدأ هكذا:(اتشحت السماء بالغرابة، وشعر أن الأرض تتوجع تحت الأقدام) ص77

ويلاحظ القارئ أن هذه القصص الثلاث ، ومعها قصة خروفة ، تُسردُ بصيغة ضمير الغائب ما يُكسبُ النص شيئا من الموضوعية ويُبعده عن الذاتية ، غير ان تقانة السرد في كل قصة تتفاوت وتختلف.

وتنفردُ قصة على حافة النهار في أنها الوحيدة التي تُسردُ بصيغة ضمير المتكلم :

(فجأةً انهمر المطر على الشارع المليء بالمارة والسيارات والمحلات والنساء والشحاذين .كنتُ مرهقا والوسن يطرز عيني بالحرقة والذبول ودبيب النمل ينتشر رويدا رويدا حتى احتل جسدي المتعب) ص39

والسارد بصيغة ضمير المتكلم يُكسبُ القصة شيئا من الألفة والحميمية لكنه سارد إشكالي إذ يفتح الحكاية ويدخلها ويصير واحدا من شخوصها ،يروي الحكاية من داخلها ، يسرد الشخوصَ ونفسَه ، ومن هنا تبثق إشكاليته : إنه سارد ومسرود ، وبسبب هذه الاشكالية يوصفُ بأنه ساردٌ غير موثوق

وليس موقع السارد مسألة نحوية أو مسألة ضمائر : إنها موقف سردي. تجري احداث قصة على حافة النهار في مدينة عربية ما بينما تجري أحداث باقي القصص داخل جغرافيا الإمارات:

ألهذا اختار الكاتب هذا الموقف السردي؟

ويتصل بسؤال السرد : زمن السرد وزمن الحدث . نادرا ما يستخدم عبد الحميد أحمد السرد الخطي: (وإذ صحت من نومها يوما ام عبدالله بعد خمسة عشر عاما مذعورة هتفت :

” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أعوذ بالله من كل ذنب عظيم … أي حلم هذا ؟ “

وكانت ام عبدالله قد اغرقها طوفان النسيان كالآخرين، وبدأتْ تسرد الحلم المرعبَ لنفسها إذ رأت جمجمة محمد صالح قد تهشمت فوق الطريق وتناثرت شظاياها ) ص22

إنه يكسر الزمن، ويكرر المقطع السردي الذي يحمل ما هو ،في نظره، جوهري ، ولدى تكرار المقطع تأخذ المفرداتُ أبعاداً جديدة كأنها خرجت من مضخم صوت. هذا التكرار تقنية سردية .

من المهم ان نشير ،أيضاً ،إلى مطلع قصة نسمة هواء طائشة :

(زعموا ان ناحل بن راجل العاري الملقب بأبي جائع المطحون ) ص27

بهذه الطريقة من السرد ينبهنا الكاتب منذ البداية بألا نعتبر ان ما يسرده واقعي ، وأن نميز بين المخيلة والحياة ، بين المعاش والرمزي وأن نفكر بما يحرضه السردُ فينا ، وهذه التقنية ، كما يعلم القارئ، نجدها في كليلة ودمنة وفيما رواه الميداني في قصة المثل المعروف “في بيته يؤتى الحكم” وفي غيرها. وفي استخدام الكاتب لهذه التقنية رسالة مفادها أنه لا يقطع الصلة مع جذور السرد العربي وإن كان يبحث ويستخدم تقانات سردية حديثة. ففي قصة خروفة (المروية بصيغة ضمير الغائب) اكثر من سارد :

( تحكي والدتي أنه في الصباحات الجميلة تلك كان يأتي ويتكرمش في عتمة الفجر المنبلج شمال بيتنا وإذ تراه تقول” جاء يريد مقصاً ومرآة” وتقول جارتنا ام محمد انها كلما رأته في الموقف ذاته عرفت انه يريد فنجانا من القهوة وحبات من الرطب… إذ إن محمد صالح كما أكد سيف بن خلف مرارا رجل تقي صالح حقا اتخذ من المسجد بيتا مؤبداً له ) ص13

المعنى والمبنى :

(لا يعرف منذ متى بدأ يحلم بالماء ) ص65 ، (وبدأت تسرد الحلم المرعب لنفسها ) ص22

بناءُ القصة عند عبد الحميد أحمد يتنازعه عالمان : عالم الحلم / الذاكرة  وعالم الواقع / الحاضر : المداميك التأسيسية لبنائه اللغوي/ السردي نجدها في الذاكرة / الحلم ثم يعززها بمرتكزات واقعية :

( ومسح النسيان ذاكرة البعض الآخر ولم يبق من محمد صالح الا اللحم والعظم ،لم يبق ثمة مسافة بين الحلم والواقع ، بين الخيال والحقيقة .. وحين زالت الخيام وشقَّ الطريقُ الجميرةَ إلى نصفين وركضتْ السيارات فوق الإسفلت لاهثة وسُدتْ شبابيك المسجد لتكييفه بالمكيفات ظل محمد صالح محافظا على ركنه الأوحد الغارق في الظلمة والنسيان في المسجد ) ص20

اما على صعيد المعنى / المضمون : فقد شهدت دولة الإمارات تحولات نوعية كبيرة تتمثل في الانتقال من مجتمع ذي خصوصية محلية إلى دولة حديثة في زمن قياسي وتدفقت اليه عمالة وافدة كبيرة ما أثر في التركيبة السكانية وانعكس على النسيج الاجتماعي وتغيرت الحياة اليومية وانحسرت المهنُ التقليدية( وما يتصل بها من تراث شعبي وحِرف وفولوكلور وأشعار وحكايا وامثال ) بعد انتشار التقنيات الحديثة وما ينقله الاعلام المتطور من ثقافات وقيم مختلفة ، وتلاحظَ أن جيل الشباب بدأ يميل الى انماط الحياة الجديدة وينأى عن التراث المحلي ما خلق هوة بين الأجيال .

قصص عبدالحميد احمد تقول ،فنيا، الشيء ذاته ): تذكرتْه وهتفتْ لحفيدها : ” اذهب الى المسجد واخبرني إن رأيت محمد صالح هناك ” ووقف الصغير متلفتا حواليه مستفهما عن هذا الطلب الغريب ثم اجابها في بلاهة والشعر ينهدل فوق جبهته البيضاء: ” ماذا تقولين جدتي ،محمد صالح،من محمد صالح هذا ؟ ” وكان الصغير الجميل المحبوب لم يسمع أبداً بخرافة محمد صالح ..كما لم يسمع صغار اليوم ذلك ايضا،لكن من يريد منهم ان يرى الرجل .. فربما يجده في المسجد نفسه) ص23

إن القصص التي يكتبها عبد الحميد أحمد تذهب إلى الجوهري ،والعميق في حياة أبناء شعبه.

الشخوص/ الأبطال :

يقدم عبدالحميد احمد الشخصية ويحيطها بعدد من المرايا (أكثر من سارد يسرد الشخصية) ويوظف الأسطورة والخرافة الشعبية في رسمها ، نتوقف عند شخصية محمد صالح (بطل) قصة خروفة:

( وقال حمدان بن كنتوت أنه (أي محمد صالح) ذهبَ إلى عُمان لرؤية قريب له في الباطنة ،رغم ان الجميع لا يعرفون أن للرجل أقارب من أي نوع كانوا ، وقد تشاجرا حول ميراث لهما فغضب منه قريبُه غضبا شديدا وعقابا له على ذلك سخَّرَهُ لمشيئته وقام بتحويله إلى بقرة تمشي على أربع وتضرعُ  لبناً وتهمهم في المساء والصباح : ” أنكووووح – أنكووووح ..” (وقام حمدان بن كنتوت بتمثيل المشهد على مرأى من الجميع) لمدة أسبوع كامل ثم أعاده إلى هيئته الآدمية لما تاب محمد صالح وتنازل عن حقه ففرَّ من عُمان راجعاً إلى المسجد ) ص17

نلاحظ ،هنا ، المشهدية ، والسخرية والدعابة اللتان تثيران في نفوسنا الإبتسامة ، والأسى

( قالت أم عبدالله أن للرجل الذي يملك حكمة من الله علاقات مع الجن يحملونه ويطيرون به الى عوالمهم المخيفة ثم يعيدونه) ص 17 ، (ويذكر سالم بن يديده في المجالس أن الرجل اختار المسجد سكنا كي لا تفوته فريضة من الفرائض لكن سيف بن خلف قال إن ذلك ليس السبب فمحمد صالح لا يصلي دائما مع الجماعة وإذا صلى معهم لا يراعي الامام .. على الرغم من ذلك يؤكد راشد العود ان الرجل يتمتع بقدرات خارقة حباه الله بها من بين العالمين .. ويستشهد بحادثة تؤكد كلامه، حيث أصابتْ يوما ابنه الصغير شوكةُ لخمة إذ كان يستحم في البحر فمرض مرضا شديدا وكان سيقضي يقول راشد العود: ” نعم كان سيموت لولا أن أخذتُه إلى محمد صالح القابع في الركن المبارك ليقرأ عليه وله ويعمل له كتابا وضعته تحت رأس ابني ” ويقسم العود أنه لم يمض يوم حتى كان ابنه يدبك في الحارة كالحصان،ويضيف أنه في اليوم التالي كان يمشي فوق سيف البحر إذ وجد اللخمة منتفخة)ص14،15

(وكتأكيد على ذلك يقول أحمد المستريح اكبر تاجر في الحارة إن محمد صالح يستطيع أن يجمِّد حشرة تدبُّ في مكانها بإيماءة من اصبعه ، وبإيماءة اخرى يجعلها تدب من جديد ) ص16

( وغداً، هذا ماقاله سيف بن خلف ..إذ كان يحدث لفيفاً من الشبان، غدا مع اكتمال حلقات النسيان التي جاءت مع مجيء السيارات التي تجري بالبترول، البترول نفسه الذي قتل غريب ،ذاك الطائر الغمري الذي واراه التراب فجأة في غفلة من الناس أجمعين ،غدا، قال سيف بن خلف إن محمد صالح لن يكون إلا ضحكة أو دمعة أو بصقة، وأضاف أحدُ الشبان هامسا في أذن سيف بن خلف:

 أو ريحاً … أو غضبا.. وأكد سيف بن خلف للشباب قائلا:

” إنهم يمضون بسرعة، هؤلاء الأحباب يمضون بسرعة، كلنا نمضي بسرعة “

وصمت.وقد لاحظ الحضور دمعات ترقرقت في عيني سيف بن خلف) ص19

ونتوقف ،أيضا، عند شخصية نبيلة و(مراياها) في قصة على حافة النهار :

( نبيلة ، هكذا ذكرتْ لي اسمها فيما بعد ، كانت في وسط الحانة، أمامها طاولة صغيرة ومقعدٌ خال ومشروب أحمر اللون .. ” هل تسمحين؟ ” مشيرا إلى المقعد الخالي أمامها “تفضل” أجابت فوراً .. وخلال عشر الدقائق الأولى كنا نتحدث في مواضيع شتى ليس فيها الوقار ولا الحشمة ..” هل تصعدين معي ” لتقول لي دون تكلف وببساطة وأدب شديدين: “بل أنتَ تذهب معي الى الدار” .. في البدء قالت انها من مدينة أخرى وأن أباها ضابط كبير وهي هنا في زيارة لأمها المنفصلة عن زوجها .. ثم قالت بعد كأسين ورقصة إنها زوجة لثري يعيش في الخارج .. وفي غرفتها همستْ بانكسار: : أتعرف الصغيرة التي رأيتها،انها ليست ابنتي هي ابنة أخي .. عادت تقول وهي تخلع ملابسها : ” غدا سأسافر، سألحق بزوجي الثري ” ثم وهي تندسُّ في الفراش بعد أن خلعتْ اقراطها الذهبية اضافت: ” زوجي يملك عمارتين، كتبَ إحداهما باسمي ” وإذ مالت نحوي جاءتني انفاسُها اللافحة تعبق بالتبغ والخمر ورائحة الليل الميت بينما جسدها الذي لامس جسدي كان باردا كقطعة من خشب بللته الرطوبة، ولحظة أن غمرتني موجةٌ من الاغفاء الشهي سمعتها تبكي، ثم قالت وهي تنتحب قبل أن أغرق في النوم تماما:

” أبي مشلول وعلي أن أدفع مصاريف تعليم أخوتي.. ” وغاصتْ في فجيعتها إلى القاع ، ناحبة قالت :

” كلهم يكذبون علينا .. كلُّ شيء مخادع ..حتى الأحزاب، لا أملَ أبداً إلا في الضياع ) ص53،56

………………………………….

  • روائي سوري