الزعبي

دراسة سيميائية في قصة “الصدى” لعبد الحميد أحمد – بقلم أ.د. أحمد الزعبي

تطرح قصة الصدى لعبدالحميد أحمد سؤالاً شائكاً عن فلسفة الوجود والحياة والموت والمصير الإنساني. هذا السؤال الذي شغل الفلاسفة منذ بدء التاريخ ووصل ذروته لدى الوجوديين المعاصرين الذين تزعمهم جان بول سارتر في القرن العشرين. وظل السؤال الشائك عن الوجود الإنساني محيراً غامضاً يبحث عن أجوبة، فالحياة تبدأ والعمر يمضي والموت يأتي، ثم تبدأ حياة أخرى وتنتهي إلى الموت وهكذا. فما وراء هذا الوجود الغريب؟ وما وراء هذه الحياة الأغرب؟ وإلى أين المصير؟ تلك هي أسئلة قصة الصدى الجوهرية التي سنناقشها بعد قليل.

على عادة عبدالحميد أحمد في كثير من قصصه التي ينحو في أسلوبها إلى أجواء اللامعقول والغرائبية، فقد جاءت قصة الصدى لوحة تعبيرية رامزة تدور في أجواء غريبة موحية، فبطل القصة -لا اسم له- يجد نفسه فجأة وحيداً في غرفة بعد أن غادر جميع الناس هذا المكان، أو هذه الغرفة. وفي هذه اللحظة يحس بالراحة والهدوء بعد أن ابتعد عن ضجيج الآخرين وصخبهم وجحيمهم كما يقول. ويشعر البطل بالوحدة الممتعة اللذيذة والألفة في هذه الغرفة الواسعة الجميلة، ورق الجدران لوحات لتشكيلات من الطيور والزهور الجميلة، وسرحت عيناه بلوحة أخرى جميلة راح يتأملها وهو يسترخي فوق كرسي هزاز، وهذه اللوحة تبدأ بتغيير ألوانها من الرمادي إلى إرسال بعض خيوط الشمس المشرقة، ثم يبدأ شفق الغروب بالزحف. وفي أسفل اللوحة طيف يجلس على كرسي، كان وحيداً ينظر في فراغ، وكان البطل يراقب اللوحة فوق كرسيه أيضا ويشعر بحريته وبوجوده وبوحدته وبهدوئه الذي كان يفتقده مع صخب الآخرين وضجيجهم، وهو الآن يسرح بذهنه بعيداً وأفكاره تسافر في كل مكان.

لكن إطراق البطل يطول وجلسته فوق كرسيه الهزاز تمتد إلى أن يفاجأ بلوحته الجميلة تفقد ألقها وضوءها وشمسها شيئاً فشيئاً، فيزحف عليها الغروب والليل ويتلاشى خيط الشمس وكل ألوانها الزاهية ويعم الظلام وتغرق اللوحة والغرفة والمكان بالسواد الكامل، ويختفي الطيف الذي في اللوحة أيضا. وينتبه البطل إلى أن الوقت مر دون انتباه، وأن المكان أصبح مظلماً تماماً. حاول أن ينهض من كرسيه لإشعال ضوء الغرفة لكنه شعر بالعجز ولم يستطع النهوض من مكانه، حاول أن يحرك رجليه للوقوف، لكنه لم يجدهما ولم يحس بهما، حاول أن يمد يديه للبحث عن رجليه لكنه لم يستطع أن يحرك ساكناً وشعر بالذعر والهلع، فهل أصيب بالشلل الكامل والعتمة الكاملة؟ لكنه في محاولة أخيرة وقد انتابه خوف شديد استجمع كل قواه ليصرخ صرخة مدوية، لعل أحداً ينقذه، لعل أحداً لم يسمعه فقد ظن أن هدير استغاثته وصرخته سيمزق الجدران المحيطة ويبدد الظلام الذي تكاثف حوله، وبكل قوة يصرخ ويصرخ لكن دون صوت، فلم تخرج الصرخات من فمه، وبقي في كرسيه عاجزاً مشلولاً ذاهلاً يغرق في ظلام كثيف.

إشارات موحية

تتشكل سيميائيات قصة الصدى أو إشاراتها من خلال لغة رمزية موحية ولقطات فنية ترتب وتنظم وتنسج لتشكيل اللوحة الرئيسية أو المشهد الرئيسي الإيحائي في القصة. ومن المنظور السيميائي تكون اللغة إشارة، واللقطة إشارة والحدث إشارة، وكذلك البناء والأسلوب كلها إشارات رمزية تحيل إلى فكرة أو موقف أو فلسفة يطرحها الكاتب في نصه مثلما تحيل وتظهر المعالم الجمالية والإبداعية لهذا النص.

فالجملة الأولى في القصة تقول هكذا خرجوا دفعة واحدة وتركوه وحيداً، بعد الحشد والضجيج والصخب ساد صمت فجائي.

إشارة إلى فضاء القصة وانطلاقتها التي ترصد حالة الوحدة لدى بطل القصة بعد طول صخب وضجيج؛ هذه الوحدة التي تفهم من سياق القصة كلها ستشير إلى مرحلة غروب الحياة أو نهاية سباق العمر أو حالة العجز والشلل التي انتهت إليها القصة. ووحدة البطل في القصة هي حالة تأمل في ذاته وحياته وزمنه ومصيره، وهذه الحالة تنتقل فنياً إلى اللوحة المعلقة فوق الجدار لتكمل حياة البطل أو لتجسد مرحلتي الحياة والموت. فاللوحة المشرقة المضيئة صباحاً تتحول تدريجياً إلى لوحة مظلمة سوداء عندما يزحف المساء، وحياة البطل بطولها وعرضها وضجيجها وصخبها وإشراقتها، تتحول بمرور الزمن إلى وحدة وإعتام وشلل.

اللوحة في القصة إشارة أيضا حمّلها الكاتب رمزاً عميقاً وكأنها معادل موضوعي لحياة البطل التي تبدأ في الصباح /الولادة وتنتهي في المساء /الموت، وما بينهما عمر وحياة وآخرون وصخب. وفي اللوحة /الإشارة تبعث الألوان والرسومات إشارات أيضا، توحي كل إشارة الى حالة أو فكرة أو معنى، فقد كانت:

(خلفية اللوحة رمادية تميل إلى السواد المبيض، ثم يختفي الرمادي درجة درجة، وفي زاوية اللوحة اليسرى إلى الأسفل طيف يجلس على كرسي وحيداً ينظر في فراغ، القصة. ص72).

اللوحة، لوحة الحياة، ذات خلفية رمادية، وهي إشارة إلى حياة البطل رغم ما يتخللها من خيوط أشعة الشمس أو لحظات الفرح والسرور التي عاشها، لكن اللون الرمادي يقبع دائما هناك خلف اللوحة، أو أن الموت والنهاية المحتومة دائما في الانتظار، ولا بد أن يزحف هذا الموت على الإنسان مثلما يزحف اللون الرمادي على اللون الأبيض في اللوحة. أما الطيف في اللوحة فإنه إشارة أخرى إلى بطل القصة أو معادل موضوعي له، فالطيف الجالس على كرسي أسفل اللوحة المحدق في فراغ هو بطل القصة الذي يجلس الآن في غرفته فوق كرسيه الهزاز وحيداً متأملاً غارقاً في التفكير في هذا الوجود والحياة والموت والمصير. إنهما صورة واحدة يزحف عليهما الموت معاً ليندثرا ويغيبا معاً في كثافة السواد وحلول الظلام، ففي اللوحة:

(يبدأ لون الشفق في الظهور انسحب خيط الشمس في خفوت وأطلت بواكير عتمة شفافة ثم اختلطت الشمس بالعتمة وامتزجا، ودرجة فدرجة أخذت مساحات العتمة تتزايد وضوء الشمس يتلاشى وتغرق الغرفة في السواد. القصة، ص72 و73).

لوحة الحياة هي هذا العمر الذي يتأمله البطل، ويرى فيه لحظات النور ولحظات العتمة لكنه يتوقف عند اللحظة الحتمية ولحظة السواد الكامل في اللوحة (أو الحياة) ولحظة السواد الكامل في الغرفة فما الذي يفعله والمصير المأساوي يقترب منه أكثر فأكثر؟ ماذا يفعل والعمر قد مضى ولا مفر من هذا الموت الذي يقف أمامه وجهاً لوجه؟ لابد أن يوقف كرسيه الهزاز المتأرجح إلى الأمام وإلى الوراء، لا بد سيميائيا ورمزيا أن يتوقف الزمن أو العمر أو الحياة عن الحركة وقد أصبح الظلام/ الموت قاب قوسين أو أدنى، وبالفعل يتوقف الكرسي عن حركته لمواجهة المصير المفجع.

(توقف الكرسي عن الحركة، كبسة واحدة على الزر ويندحر الظلام، لكن لم يستطع النهوض، فوجئ أن رجليه غير موجودتين، حاول تحريكهما لكن لا إحساس فيهما. مد إحدى يديه ليتحسس بها رجليه لكنها لم تمتد، جسمه يعصي على الحركة وعيناه غارقتان في الظلام وشعر رأسه، غزاه رعب مدمر. القصة، ص 73).

هذا الإحساس بالرعب المدمر هو لحظة اليقين بانتهاء الحياة ومواجهة المصير، وهي لحظة صاعقة أفقدته القدرة على الحركة وشلت جسده. والظلام الذي يلف الغرفة كلها، هو علامة انقضاء العمر وحضور الأجل. وبالفعل يحل الأجل وتبدأ أعضاء البطل بالموت حين تصاب بالعجز والشلل وهو لا يستطع أن يفعل شيئاً مثلما لا يستطيع أحد أن يرد أجله حين يحين.

وتمضي لقطات القصة ومشاهدها الموحية إلى الإشارة /الذروة أو إلى النهاية المفجعة، حين يحاول البطل يائساً محاولته الأخيرة للقبض على الحياة وتفادي الموت المحتوم، لكنه يفشل أيضا، فالموت حين ينقض لا راد له.

لا مفر

إن هذه المحاولة الأخيرة للتشبث بالحياة لا تجدي أيضاً، وليس لها أن تجدي، كما يرى الكاتب، فالحياة مهما طالت لا بد أن تنتهي بفاجعة الموت، وهذا حتمية لا استثناء فيها. وبطل القصة مثل أي إنسان في الواقع يقاوم الموت ويحاول كل جهد لتجنب هذا المصير وقد يراوغ أو يتخيل النجاة أو يهرب حتى النفس الأخير، لكن لا مفر في آخر الأمر إلا أن يستسلم إلى الموت (ويبقى صورة معلقة فوق جدار)، وهذا كل ما يتركه وراءه، يرى المؤلف. ورؤية المؤلف هذه تنطوي على أسئلة وجودية كثيرة.

قلق مؤرق

ربط عبدالحميد أحمد ببراعة وتميز بين ثنائيات متعددة في القصة شكلت نسيجاً منسجماً متلاحماً فنياً وموضوعياً. فثنائيات: (اللوحة / الغرفة) و(الوحدة / الصخب) و(الاهتزاز / الشلل)، كلها تنويعات متوازنة مترابطة للتعبير عن ثنائيات الحياة والموت، الوجود والعدم، الصباح والمساء، الشباب والشيخوخة، وأخيراً الصوت والصدى كما يوحي عنوان القصة.

وأخيراً فإن الكاتب في قصة الصدى يعود بنا إلى أجواء أصحاب المدارس الوجودية والعبثية، وجودية (سارتر) وعبثية (بيكيت). فالسؤال الوجودي الذي يطرحه عبدالحميد أحمد هو الإشكالية الوجودية التي شغلت هؤلاء الفلاسفة والأدباء لزمن طويل، وهو سؤال مقلق مؤرق عن وجود الإنسان ومصيره.

*

: (أ.د. أحمد الزعبي *)

جامعة الإمارات

 

جريدة الخليج

تاريخ النشر: 27/12/2008