-عبيد-الهاملي-1-ousihuw44dwksuuqbut2b8r9e6w9sbeldpp3r72r2g

أشياء “كويا” الصغيرة

شرب استكانة شاي وجلس صافياً.

“كويا” اليوم في هناء، فالأخبار التي جاءته من زوجته البعيدة سارّة.

ذهب الصباح إلى السوق. دخل الزحام. كان الباعة يفترشون الأرض وأمامهم كل الاصناف من الملبوسات الرجالية والنسائية والولادية ، الخارجية والداخلية. أخرج المائة درهم وأمسك بها بين أصابعه في حرارة. تبللت الورقة بالرطوبة والعرق. قبل أن يخرج تردد كثيراً، كان خجلاً، وبهمس يكاد يقرب إلى الصمت المعتم قال :

– “أرباب في مية، أنا آخر الشهر يعطي”.

ودون أن ينبس أحدهما بعد ذلك كانت المائة في جيب “كويا” وفرحة صغيرة بدأت تغمر القلب الخراب، أبصر الملبوسات، وقعت عيناه الشاحبتان على علبة خضراء صغيرة تضم قميصاً وشورتاً ومريولة طفلية، تناولها، شعر أن العلبة تضخ عبيراً. ضمها إلى صدره بعد أن اقتناها ومشى وحيداً يقلّب ناظريه في الناس، أم العيال بحاجة إلى شيء هي الأخرى..

دخل الدكان.

منذ زمن بعيد لم تأته الأخبار السارة، لكن الرسالة بالأمس كانت شيئاً جديداً، أعاد قراءتها مرة ومرتين. ارتعشت أنفاسه وكاد يلمس بشفتيه اللحم الطري الساخن الذي دخل حياته لأول مرة، لكنها ليست ككل مرة. قبَّل الورقة، فتح دفتر الرسائل وبدأ يكتب.. أربع بنات يثقلن كاهله حين يكبرن سوف يجهز لعرسهن واحدة واحدة وإلا فلا زواج، لكن الزوجة البعيدة أهدته هذه المرة طفلاً وقالت له إنها ستتوقف عن العمل لفترة شهر وعليه أن يغطي مصاريفها والبنات والمولود الجديد، لا يهم.

وبدأ يكتب، قال لها: “سمِّهِ “عبد الله كويا”، أو أقول لك : سمّه عيسى.. لا .. لا .. محمد كويا، لا أعرف اختاري اسماً يشتهيه قلبك ليتني كنت معكم، لكن كما تعرفين، أنا لا أستطيع شيئاً إلا العمل هنا..”.

وتوقف، وحين أقبلت الرسالة سارع إلى رب العمل باسماً : “أرباب.. أنا في ولد جديد.. أول في بنات بس.. كلّش بنات.. ولد واحد كبير يموت في ترين و …”.

أجابه:

– “مبروك” وانصرف وبقي “كويا” سعيداً يضم الفرحة لصدره والارتعاشات والحنين، وأضاف:

– “سأحاول السفر إليكم عند أقرب فرصة”.

وضم العلبة الصغيرة وقطعة القماش هدية المرأة ثم لفها بورقة كرتون : “سأرسلها بالبريد، اهتمي بالبنات والولد، لا أعرف ماذا أقول أيضاً.. لا أعرف..”.

وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء، وفي غرفته الصغيرة الخالية إلا من صندوق الأمتعة الحديدي وفراش الإسفنج المبقع، كان الهدوء مسيطراً وثمة اضطراب في قلبه وخلجات في أنفاسه ثم انهمرت طرقات عنيفة على الباب:

“كويا.. العشاء..”.

ترك أشياءه الصغيرة الحلوة وجلس مع مورلي وجوزيف وسنغ وكَل زاده وآخرين وأمامهم أكوام الخبز وصحون العدس، وهتف في بلاهة لم يهتم لها الآخرون: “انتظرته أربعة عشر عاماً.. وأخيراً جاء.. يا إلهي كم أنا سعيد”.

ورجع الغرفة وبدأ يكمل الرسالة : “أربعة عشر عاماً وجاء، سمّه ما تريدين، وعسى الله أن يجعل فيه العوض عن محمد كويا الذي  التهمته القضبان الحديد”. واليوم في السوق نزلت دموعه فمسحها سريعاً، ولم يبق من المائة درهم التي استلفها إلا درهمان دفعهما للتاكسي والليل هبط الآن وكان وحيداً ثم تسلل إلى فرشة الإسفنج، ولكن في الظلام انزلق اللحم الطري وسال منه الدم وتقطعت أطرافه ولوثت البقع القانية الفراش وتشوه الطفل، مات، مات، وارتفع  صراخ المرأة وبناتها في جنون جنائزي فصحا “كويا” منزعجاً والعرق يبلله والشمس دخلت إلى غرفته الرطبة الغارقة في رائحة الصراصير والحشرات، لمح الهدايا الصغيرة فاطمأن ومسح وجهه وخرج يغتسل وعند الضحى حمل اللفة تحت إبطه وسار كتلة في الشارع دون تفكير إلا في الطفل والزوجة والبنات.

كان الناس يدخلون ويخرجون، يروحون ويجيئون أمام مكتب البريد، وهو واقف كالمسمار ولما تعب اقتعد الرصيف واللفة استرخت في حضنه في وداعة، خمسون درهماً ثمن إرسال اللفة إلى “كيرالا”.

فتحتها الزوجة وقرأتها وبكت وقالت تخاطب الوليد النحيل: “ستأتيك الثياب من أبيك”.. خمسون درهماً أخرى والشهر في منتصفه واللفة قد لا تصل إلى الوليد وأمه، ولم يعد قادراً على التفكير في كيفية السفر إلى بلده، المهم الآن إرسال اللفة، خمسون درهماً أخرى، من أين؟ الرصيف يعج بالمارة والحرارة والضجيج والذباب والفرحة الصغيرة التي غمرت الجوف تتلاشى نهائياً اللحظة، وقد تحملها الهموم من جديد كما تحمل الريح الهباء. ” كويا” ضاع تماماً وسط الصخب، أكلته الحيرة ودمرته اللحظة القاسية. عبير اللحم الطري لم يعد يداعب أنفه ولم يبق إلا دموع الزوجة وكآبة السنين ومرارة الحرمان وعذاب الوحدة ومذلة الطريق، سنوات العمل في رصف الطرقات، هذا الرصيف هذا الشارع بناه “كويا” وزملاؤه. تاه في الليل طويلاً، جاب الطرقات الساكنة حاملاً اللفة، فجأة انهمرت عليه البشارة.

عند الصباح خطف رجليه المتعبتين وذهب إلى السوق الذي بدأت تتسرب إليه أفواج الناس وصخبهم، وقف عند البائع الذي اشترى منه بالأمس:

– “هل تشتري قطعة القماش هذه ؟.. اشتريتها منك بالأمس”.

أشاح البائع وصار ينادي على الزبائن.. “فلتصبر دهراً آخر أما الوليد فسأبعث بهديته بثمن هدية أمه”..

تجوّل في السوق، اقتعد الأرض وعرض لفه الزوجة للبيع، لكن ، ليس من يشتري.. استجدى أحدهم واثنين وثلاثة، إنها قطعة قماش جيدة “أرباب” هذا زين واجد زين، أنا يشتري بأربعين يبيع حق انته بثلاثين..

ينصرف .. ينصرفون.. لا أحد يتوقف .. “إنها هدية زوجتي”، يبقى وحيداً عارضاً بضاعته للهواء، يضج من الغضب والحزن والقساوة، يضيع وسط لجة الأحزان  الجديدة، ينسى الفرحة والولد والأم، يواصل التجوال، لا مشتري، لكنه يحاول جاهداً من جديد، تغمره الأمواج هذه المرة بعنف.

ملاحظة :

ما زال “كويا” يجوب شوارع المدينة الكبيرة عارضاً اللفة للبيع.

عبد الحميد أحمد

من المجموعة القصصية (البيدار)، دار الكلمة للنشر، 1987