حميد بن ذيبان، نائب المدير لميناء الحمرية بدبي، رد أمس في الإذاعة على شكوى لصاحب خشب أو نوخذا، وأنهى كلامه متسائلاً عن سبب ترك المواطنين العمل في البحر كنواخذة كما كانوا في الماضي. وأجاب بنفسه على تساؤله حين عزا السبب إلى أمرين: إما لأن النواخذة كبروا في السن وشابوا، وإما أن البحر أتعبهم فتركوه للأجانب. لكني أعتقد أن السبب لا هذا ولا ذاك، فقبلهم أيضاً هجر سماكونا البحر، وتحول الواحد منهم من صياد بنفسه، إلى مالك لعدة الصيد، وعماله الهنود أو الآسيويين، وبعضهم توظف في الحكومة ناطوراً، على الأغلب أو سائقاً في باص مدرسي، ومثلهم فعل البيادير الذين تركوا الزرع والنخل، وفعل الأمر نفسه البناءون والنجارون وغيرهم، وكافة أصحاب المهن الكبيرة أو الصغيرة. ومن اليوم الذي شاع فيه استخدام المثل الشعبي «اشلك بالبحر وأهواله وأرزاق الله على السيف» تربع الجميع جالسين، رجلاً على رجل وانضموا إلى طابور منتظري فرج الله وتسلم الرواتب آخر الشهر، أو إلى ملاك صغار وتركوا كافة الأعمال الصغيرة، التي لا نستغني عنها في حياتنا اليومية للخبراء الأجانب من العمالة الرخيصة الوافدة وتبعتهم في ذلك نساؤنا، اللواتي تربعن أيضاً ملكات على إمبراطورية من الخدم والبشاكير والمربيات والسواقين، وكثير منهن امتدت سلطاتهن إلى الأزواج.
كل ذلك، فعلته الثروة التي أنعم الله بها علينا فصرنا نتكل على غيرنا في كل كبيرة وصغيرة، ما دامت الفلوس تجري بين أيدينا، دون أن نفكر لحظة في مستقبلنا يوم تشح هذه الفلوس ولا نجدها.
قبل الثروة، كان عندنا نجارون مواطنون يصنعون الخشب والسفن، وكان عندنا بناءون مواطنون، يبنون لنا الخيام من جريد النخيل وأخشاب الجندل ويصنعون الدعون وكان عندنا مزارعون وبيادير، وكان عندنا صيادون وبياعون، وكان عندنا من يسوق الماء من الآبار على ظهر الحمير وكان عندنا الصفارون والبقالون، وكان عندنا الأطباء الشعبيون والذين يتولون معالجة الناس بالأدوات البسيطة، والحلاقون الذين يزينون الرجال ويختنون الأولاد، وكان مجتمعنا باختصار يعمل، كل له مهنته ودوره ومجاله وكل ذلك أصبح الآن في ذمة التاريخ حتى الحمير التي اختفت هي أيضاً واشتقنا لرؤيتها.
ومثل ما اندثرت كل هذه المهن وحل فيها أجانب يخدموننا ونحن ندفع لهم، صار شبابنا يفكر الواحد منهم بوظيفة ومكتب وسكرتيرة يستحسن أن تكون «فل أوتوماتيك» وإلا فلا، أو يحلم بامتلاك شركة تجارية كبيرة دفعة واحدة، وإلا فإنه لا يرضى أن يبدأ بداية بسيطة كأن يفتح دكاناً في البداية أو محلاً متواضعاً، وصار عيباً أن يعمل الواحد في مهن مثل هذه، أو يبدأ السلم من أوله.
وبما أن مرحلة القمم، والوظائف الفاخرة والرخصة التجارية التي تبيض ذهباً، تكاد تولي نظراً لتشبعها، فإن شبابنا عليهم قبول الواقع الجديد، إذا لم يكن من أجل الحاضر، فمن أجل المستقبل، مستقبلهم ومستقبل بلادهم على السواء. ودعونا قبل أيام شبابنا إلى الانخراط في الأعمال المهنية الحرة كبداية، وهذا يقتضي تشجيع التعليم الفني والتقني والتحفيز عليه، كما يقتضي إنشاء صناديق ومؤسسات لتقديم قروض صغيرة وبأقساط ميسرة لهؤلاء لدفعهم إلى السير في هذا الاتجاه، كما هو الحال في عدد من الدول ومن بينها مصر.
نحن نحتاج لمثل هذه الأفكار والمقترحات، لكن قبل ذلك، لابد أن يقتنع شبابنا، بما فيهم الجامعيون وخريجو الثانوية، بأن الوظيفة ليست هي كل شيء. وليست وحدها التي تصنع الرجال وتجلب المال، وإذا أصروا على الحلم بأن يصبحوا مديرين ورؤساء أقسام وأصحاب شركات وعقارات وسكرتيرات حسناوات فإننا لن نستغني أبداً عن كل هذه العمالة الوافدة التي تخدمنا في كل شيء، فيما نحن حقيقة لا شغل ولا مشغلة، نكش الذباب عن وجوهنا في كسل، وربما استأجرنا من يكشها عنا. ثم إن علينا أن نفيق ونصحو، فأيام العسل لابد تمضي، ولابد من البصل حتى لو أحرق العيون.
من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.