SEL

S. E. L. خلاله طائر جريح في فخ صياد ماكر

جاء خلاله .S. E. L ذهب خلاله .S. E. L هل رأيتم خلاله .S. E. L؟

يجيء كل صباح، يترجل، ثيابه متسخة، وسحنته سمراء مشدودة، عيناه ضامرتان تبرقان في خفوت، أشبه بجمرتين تنطفئان، تذبلان تحت هبوب ريح بطيئة، يسير بطيئاً، يعرف طريقه جيداً إلى الكرسي.

منذ أن تبدلت الأحوال اكتسب خلاله .S. E. L صفات جديدة، كل شيء تم بسرعة مذهلة، لم تذهل خلاله وحده، وإنما أذهلت الآخرين أيضاً ممن عرفوا الرجل، وعرفوا صفاته القديمة. أصبح الأطفال، خاصة طلبة المدرسة، يطاردونه باسمه الجديد، وصار في فترة زمنية قصيرة مثار أحاديث المجالس، ومثار حسد البعض، ورثاء البعض الآخر، أما هو فلم يعد يدرك ما جرى له، استقبل كل شيء بذهول تام، وباستسلام يشبه استسلام الجثة لانثيال الرمل فوقها، أو استسلام طائر جريح لفخ نصبه صياد ماكر! فجأة وجد نفسه في مدار آخر يدور به في سرعة تثير الدوار.

ذات يوم بعيد، وعلى غير عادة الأهالي، خاصة كبار السن منهم، ممن يعرفونه جيداً، لاحظوا أن الرجل حزين وجل، لم يعرفوه كذلك، كان خلاله على الرغم من حياته البسيطة العادية والفقيرة، سعيداً، دنياه الصغيرة الخالية من الأسرار والأحزان مكشوفة للجميع، لكن اليوم، يرون أمامهم رجلاً آخر، ما الذي تبدل؟ ثم أين مسعود؟ هكذا تجاسر أحدهم وسأله:

– أين مسعود يا خلاله؟

نظر خلاله إليه بعينين تكادان أن تدمعا.. قال بحشرجة تبعث على الأسى:

– مسعود! مسكين مسعود، لا أدري كيف أطعمه؟

وصمت، وصمت السائلون، وخلاله يغوص في بحيرة لا قرار لها من الهم ، لأن مسعود ليس رفيق خلاله المدلل فحسب، بل شريك حياته وعمله ومصدر رزقه أيضاً، وهكذا كان الناس يفهمون العلاقة الحميمة بينهما، خلاله يعطف على مسعود كولده ويعتني به أكثر مما اعتنى فيما بعد بزوجته خاتون، ولم يكن خلاله يخفي سر هذا الاعتناء، كان يقول للناس:

– هذا الحمار.. لولاه لمت جوعاً..

 ويصدقونه.

في حوش البيت صنع خلاله خيمة من الجريد، فيها كان مسعود يتمتع بالدفء. وبالأكل الوفير، السبوس ونوى البلح والرز والبصل، إلى جانب الماء الذي كان خلاله يبدله له كل مساء، ولعل حيواناً آخر في الدنيا لم يحظ بالعناية والاحترام اللذين حظي بهما مسعود، حتى إن “شداده”، صنعه له من القماش المحشو بالقطن كي لا يؤذي ظهره، وفي الحارة، حيث كانا يسيران مثيرين خلفهما الغبار وطقطقة قوائم مسعود، كان الأطفال ينطلقون خلفهما، يتعلّقون بذيل مسعود، أو يضايقونه، خلاله كان يعرف كيف يجنب مسعود أذاهم، يقف، فيقف مسعود جامداً مؤدباً بلونه البني المائل إلى الاحمرار وبعينيه الصافيتين اللامعتين وجسده الرشيق، وحين يطول وقوفهما ومسعود كأنه تمثال يصب نظراته إلى الأرض. يبتعد الصغار الملاعين بعد أن يملوا وهم يرددون:

– “خلالوه قاص عليه مسعود”.

في الصباحات الباكرة الندية يخرج الاثنان معاً، ليصبحا من معالم طرقات الحارة، لا يتذكر الناس أن رأوا يوماً أحدهما دون الآخر، كانا يجوبان الحارة بحثاً عن عمل يومي، حمحمات مسعود تتصاعد في الفضاء مع صوت الأذان، ونهيقه يتردد في أسماع خلاله فيطرب لها ويردد:

– “يا رزاق يا كريم، يا راحم العباد، يا فتاح يا عليم توكلنا عليك”.

كانا متلازمين كظلين، ينشر مسعود “البعر” من خلفه في خط مستقيم، وتختلط أنفاسه الدافئة برطوبة الصباح الباردة، يعملان معاً، ينقلان أمتعة الناس من البيوت والدكاكين الصغيرة المتناثرة إلى “الفرضة” أو يجلبان الماء، وغير ذلك من الأعمال التي يطلبها الناس منهما عادة، وقد اعتادوا رؤيتهما معاً، بل إن خلاله بعد أن استطاع أن يقنع أهل “خاتون” البلوشية شرسة الطباع بتزويجها له، وبعد أن أنجب منها أطفالاً ظل وفيّاً لمسعود، كما ظل مسعود وفياً ودوداً لخلاله. في المساء حين يأويان إلى البيت بعد عناء يوم من العمل، يقف خلاله بجسمه النحيل وقامته الطويلة كالعصا على حافة البئر، ويرفع من جوفها في دلو كبيرة الماء، ثم يسكبه على جسم مسعود بارداً، وبعد أن يفرغ من ذلك يجفف جسده المبلل، وحين يدخله إلى خيمته يمسد بيده رأس مسعود في حنان ويودعه بعد أن يقدم له الأكل ويغيّر له الماء.

أما غيمة الحزن الثقيلة التي كست وجه خلاله ذات يوم فقد حيرت الناس، قال بعضهم :

– لعل مكروهاً قد أصابه أو أصاب مسعود.

وأضاف آخرون :

– لعل أحداً من أهل بيته مريض!

أما خلاله فظل صامتاً زمناً يقلب ناظريه في وجوههم تارة، وتارة يدفعهما إلى فراغ مميت، كان حزيناً يشعر بقلبه ينفطر، كأن كابوساً أو شبحاً ينتزع فؤاده انتزاعاً مؤلماً، ثم يشطره بنصل حاد مسموم، حينما طال إلحاحهم انفجرت عينا خلاله، وامتلأت بدمع غزير كالغدير بعد ليلة مرعدة ماطرة، قال مجروحاً بصوت مخدوش :

– يا ناس، كنت أعمل ومسعود يعمل، كنا نعيش، أما الآن !

قاطعه أحدهم :

– قلنا لك إن مسعود لن ينفعك بعد اليوم.. ألا تصدق؟

وأضاف آخر، بينما خلاله يرتعد كالممسوس :

– هل تريدنا أن نترك السيارات لنحمل الأغراض على ظهر حمارك؟

وأضاف ثالث محاولاً تهدئة خلاله :

– يا خلاله، الدنيا الآن أحسن، وسوف تجد لك عملاً آخر.

ثم قال آخر جاداً :

– زمن الحمير راح !

لكن خلاله غاص أكثر في مستنقع همّه، وحاصرته موجة عاتية من البكاء سحبته إلى القاع، اختنق كالغريق، ولم يعد يعرف من حديثهم شيئاً، حتى جاءه صوت مخترقاً أذنيه كرصاصة مدوية :

– الدنيا تغيرت، ألا تعلم هذا؟

خلاله لا يعلم شيئاً، بل لا يعرف شيئاً إلا هذا الحزن المخيف الجديد المدمر الذي يحوم حوله كأفعى مرعبة تعتصر ضلوعه، حزن جارح إلى حدّ الألم لم يعرفه من قبل، وما يعلمه هو أنه منذ سنوات مضت مسرعة كومض برق في ليلة معتمة كسد عمله، وهدد معيشته لدرجة أصبح معها خائفاً لأول مرة في حياته من الجوع، مسعود سيجوع ويهلك، وخاتون وأولادها سيجوعون ويهلكون، وخلاله لا يعرف طريقاً لإطعامهم، الجوع، كيف لم يشعر به من قبل؟ كيف لم يخف منه من قبل؟ الجوع.. والحزن، ينتشران أمامه الآن حتى يكادا يغطيان فسحة الفضاء أمامه كطائر خرافي يفرد جناحيه ناشراً على الشمس ظلمة دامسة، يسد الجهات والزوايا والطرقات والدروب، ويقف متحدياً بجبروت هائل خلاله الوحيد، وعندما قال أحدهم وهم يفترقون عنه :

– إعمل يا خلاله كما عمل الآخرون.. ولعلك تجد عملاً في وزارة!

طنَّ رأس خلاله طنيناً موجعاً، وظل واقفاً في مكانه وحيداً في الطريق الذي بدأ المغيب يخيّم عليه، ناشراً ظلالاً زادت من كآبة خلاله وحيرته وخوفه، عمل، وزارة، يا إلهي، كيف؟ أنا لا أعرف الوزارة؟ لكنه فجأة كمن يتذكر شيئاً جرَّ خطاه حثيثاً إلى جاره خماس؟

– هل تعرف الوزارة يا خماس؟

سأل جاره، ضحك خماس، ضحك حتى دمعت عيناه، وبعد أن سعل كثيراً وعطس سأل :

– ولماذا لم تسأل مسعود؟

ثم واصل خماس بعد أن تنحنح، وقد شعر أن سخريته لا تليق بعد أن لاحظ أن خلاله في حالة جديدة لا تسمح له بتقبل هزئه المعتاد:

_ ولكن أية وزارة يا خلاله؟

ملأت الدهشة وجه خلاله النحيل فصار كوجه طفل يضبطه أبوه متلبساً، قال منكسراً :

– الوزارة يا خماس، حيث يعمل الناس، وهل هناك غيرها؟

أما حوار خلاله مع خماس الذي استمر طويلاً وفيما بعد حواره مع المسؤول الذي قابله في الوزارة فقد صار حديث الناس وفرصة لتندرهم وضحكهم، وحينما استلم خلاله عمله الجديد كناطور لإحدى المدارس، تساءل، وسأل مسعود:

– “ماذا ستصنع الآن يا مسعود؟”.

لكن الإجابة لم تحيره كثيراً.

في الصباح تمتلئ الشوارع بالسيارات والمارة والضجيج، في الصباح يمتطي خلاله ظهر مسعود لأول مرة في حياته، وسط الزحام والضجيج، يشق مسعود طريقه إلى المدرسة وفوق ظهره يستريح خلاله، ينظر إلى المحلات المنتشرة على الجانبين وإلى السيارات والمارة بعينين تخلوان من تساؤل أو حيرة أو… بعينين لا تساؤل فيهما البتة، منظر مألوف وغير مألوف على الطرقات المسفلتة تعزف قوائم مسعود، وتصدر إيقاعاً دون غبار، شيئان نادران جاءا فجأة من عالم سحيق، وظهرا فجأة في الشارع الملآن بالعمارات والناس والمحلات والسيارات، ولأن طريقهما اليومي إلى المدرسة أصبح معروفاً للذين يرونهما، والذين تساءلوا كثيراً عنهما ثم صمتوا بعد أن صارا شيئاً غريباً اعتادته العيون فكفت عن السؤال، خالجتهم الشكوك في أنكما لا تنتميان إلى عصرهم في البداية، ثم صرتما مشهداً صباحياً مثيراً للشهية، وبعد ذلك صرتما عاديين، وبعد شهرين مضيا على حياتهما الجديدة الحافلة بالإثارة والهناء فوجئ خلاله الذي اكتسب شهرته بين معارفه القدامى من نشاطه الدائم حتى شبهوه بالخلالة الصلبة الخضراء القوية دائمة الشباب. فوجئ ذات يوم جديد آخر، بجيرانه القدامى وبعض أصدقائه يقولون له :

– لقد سمعنا اسمك في الراديو، ماذا ستفعل الآن يا خلاله بعد أن جاءك تعويض؟

وكما دارت رأسه من قبل حين داهمه شبح الخوف من الجوع ارتعد قلبه، من المفاجأة الجديدة الغامضة، يا زمن المفاجآت والغرائب والخرافة والذهول! خلاله كما داهمته وحاصرته نظرات الناس حين اكتشفوا حزنه ذات يوم، تداهمه اليوم أنباء لا يعرفها، يفغر فاه واسعاً كبئر قديمة مسحورة، يسكنها صمت الموت، “تعويضات”! وأطياف راقصة من الحيرة والجنون تزغرد حواليه، مجانين! خلاله يفقد طمأنينته، الحيرة تتغلغل في داخله وتنسرب إليه ممزوجة بالجهل الحقيقي.

– يا خماس ما هو التعويض؟

قال خماس هازئاً في نبرة لم تخل من رنة حسد :

– بيتك الخربان سيأتيه “القص”.

خلاله لا يصدق، تصعقه حسرة وتكاد حنجرته تنفجر بالصراخ، صخب في أذنيه، شيء ما يهدد حياته الآمنة، يرفع يده عالياً ويشير بسبابته إلى بيته وعيناه تجوبان الأفق كقرصان اختل توازنه: “وأين أسكن؟”. رنّت ضحكات عالية في مسامعه، كان خماس يضحك بسخرية مريرة، مقهقهاً بصوت يصل إلى أسماع خلاله كرعد قاصف كريه، قال خماس :

– ” لا عليك، أنا سأهتم لك بالأمر”.

وظلت ضحكاته مدوية في أذني خلاله، مرعدة قاصفة، تملأ أيام خلاله بالذهول والخوف من مجهول آتٍ من آمادٍ لا قرار لها، لكن كل شيء جرى كما لم يتوقع خلاله، لم يصدق مطلقاً أن الأمور الجديدة المجهولة أسهل مما توقع، فمدير البنك الذي زاره في البيت قال له :

– يا شيخ خلاله، نحن سنستلم لك المال، هذا مالك وسنضعه لك عندنا في البنك.

خلاله قال دون أن يفكر :

– ثلاثة آلاف.

أجاب المدير ضاحكاً :

– ثلاثة ملايين يا شيخ خلاله!

رد خلاله متلعثماً كطفل يتيم :

– يا مدير أنا أريد بيتاً..

قال خماس ضاحكاً :

– قصراً .. قل قصراً !

حين دخل خلاله باب البنك الخارجي الزجاجي بدشداشته المصفرة وغترته الهرئة ونعاله البالي، لمحه المدير فقام إليه مرحباً به :

– أهلاً يا شيخ خلاله، تفضل من هنا.

وقادهما، خلاله وخماس، إلى غرفته، لكنه فوجئ بموظفيه يقفون من على مقاعدهم، وقد اتسعت أحداقهم، هل يصدق هذا؟ هكذا همس أحدهم لزميل له، هل يصدق أن مديرهم ذا الطبع الحاد والعصبي يقف مبجلاً لرجل كهذا؟ قال موظف :

– دنيا!

وردَّ آخر :

– زمان عجايب !

وحين عادا إلى البيت كان خلاله واجماً يوزع نظرات بلهاء لا معنى لها بينما خماس يقول له :

– هل سمعت ما قاله المدير، يا له من رجل طيب، سيبنون لك بيتاً وسيشترون لك سيارة.

لكن خلاله لم يسمع شيئاً إلا ضحكات خماس المدوية كقرقعة الرعد المخيف، وغرق خلاله في صمت ثقيل لزج أخذ يتكاثف من حوله، وفي رأسه اشتعلت أفكار مختلطة صاخبة، تدور حول حسابات جديدة فيها سحر قاتل، وجنون لا يصدق، وغرابة كالطلاسم، أمور محيرة كثيرة، تستعصي على الفهم، وفيما بعد وجد خلاله نفسه غارقة في هموم جديدة طعمها يختلف  عن تلك القديمة، كان يعد : واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، ثم تختلط الأرقام، ليبدأ العد من جديد، وليبدأ الناس يشاهدون خلاله الفقير، الدائم النشاط والمثابرة، البسيط، مشتت الذهن مشغولاً بالعد على أصابعه، والعد من جديد، وتكرار العد، وبينما كان ساهماً يجوب الطرقات شارداً كشريد ضل الطريق إلى بيته كان مسعود يجوب الأحياء الجديدة، يفتش في زبالة الطرقات عن طعام، يتوقف أمام الصناديق الحديدية الجاثمة أمام البوابات الكبيرة، يتلقى الضرب المبرح من الأهالي الغاضبين الذين يمر من أمام بيوتهم، هام على وجهه في الصحراء، حتى انتفخت عيناه وسال منهما دمع تجمد على حواف العينين مع ذرّات الغبار، وبدأت تظهر على جسده بقع وقروح تنزّ الصديد، وخلاله الذي داهمته الأحداث وصعقته المفاجآت الغريبة كالطوفان الجارف الذي حمله ليلقي به بعيداً كالأشلاء، انتظمت حياته من جديد بشكل آخر، فذات صباح عادي وقبيل أن يدخل الطلبة إلى صفوفهم، فوجئوا بسيارة لامعة فارهة تتوقف أمام البوابة الحديدية، وسرعان ما تجمع المدرسون والفراريش والطلبة لرؤية القادم، لعله يكون مسؤولاً كبيراً أو وزيراً، ترجل السائق الهندي وفتح الباب الخلفي، فجأة اتسعت الأحداق وغمرت الدهشة الوجوه المرتقبة حين رأوا خلاله، استفحلت الدهشة وانتشرت كضباب ينزل ثقيلاً في المساء، لكن خلاله بدشداشته ذاتها ونعاله ذاته شق طريقه وسط هذا الضباب، إلى حيث الكرسي المعتاد، لم يكن هناك حمار هذا اليوم كي يربطه أمام الباب كما هي عادته، وجلس خلاله صامتاً غير مكترث بالجلبة التي أحدثها هذا التجمع، فيما عيناه تدوران في محجريهما كمن تدوران في فراغ لا تسقطان على شيء. لفت الناظر الطلبة والمدرسين إلى بدء الحصة، وعند الظهر جاءت السيارة ذاتها، بيضاء تلمع تحت الشمس كالحليب، فاندس خلاله في مقعدها الخلفي لتنطلق مثيرة في الهواء غباراً فهتف طالب :

– يا إلهي، هذه مرسيدس S   500 SEL  

ومنذ وطأت قدما خلاله السيارة صارت تجوب به الطرقات وعيناه ترحلان إلى الأشياء في ذهول أخرس أعمى، باعة ومشترون ومحلات وأضواء ودكاكين وعمارات، شيء لا يصدق، لا يصدقه خلاله البتة، ولا يكاد يجد له تفسيراً في رأسه الذي غشاه صمت مميت، كل ما أصبح يعمله خلاله، أنه في الصباح الباكر جداً، وقبل أن تنزلق أشعة الشمس إلى الوجود لتزيل ندى الليل، كان ينزل من الدور العلوي في بيته الجديد المحاط بسور جميل تعلوه الأشجار والزهور الملونة، ينزل صامتاً إلى سيارته، ويتناول قطعة قماش جافة، ثم يدلق الماء فوق سطحها، ويبدأ في تنظيف سطحها وزجاجها لتلمع فيما بعد تحت الشمس كلعبة جميلة يلهو بها طفل في حبور، ثم يأتي “راج” ليقودها له إلى المدرسة، وخلاله يقبع في المقعد الخلفي في جلسة مستكينة، ينظر ببلاهة إلى الشارع والناس، بنظرات لا تنم عن شيء، تسكن عينين ضامرتين تبرقان في خفوت، كجمرتين تنطفئان، تذبلان، تحت ريح بطيئة، ليسير فيما بعد بطيئاً بعد أن يترجل، إلى حيث الكرسي!

ومضت أيام خلاله، رتيبة قاسية، لا يكاد يحس بوجود الزمان، لا يحس إلا بوجود لهذه المفاجآت والغرائب، خرافات ، أشياء كالخرافات، في عالم جديد خلاله ينسلخ عنه إلى الصمت والذهول وسراديب الوهم الطافح في الرأس، كالرائحة تماماً، كالرائحة الكريهة التي انبعثت ذات صباح، كالرائحة التي تسللت إلى غرفة نوم خلاله، ليصحو عليها مزعوجاً مليئاً بالغثيان والدوار، الرائحة الآتية من عمارة جديدة تشاد بالقرب من منزل خلاله الجديد الجميل، خلاله لم يطق الرائحة التي ارتفعت في الفضاء، واستفحلت في الجو، وتسللت إلى غرفة نومه، وإلى رئتيه، حتى كادت تخنقه، فأسرع إلى “راج”، دق على بابه دقات عنيفة، ليخبره عن الرائحة، ولما جاء عمال البلدية لتفقد المكان كان خلاله قد بدأ في عمله الصباحي، يدخل قطعة القماش في سطل الماء ليخرجها مبللة، ثم يمسد بها السيارة البيضاء، رأى العمال بعد أن تتبعوا مصدر الرائحة جثة نتنة دخلت بين جدارين ضاقت المساحة بينهما عليها، فما استطاعت الخروج، فجاعت وماتت وبعثت رائحة كريهة أقلقت خلاله في الصباح الجميل، وبينما أخذ العمال يرفعون الجثة ويضعونها في سيارة الزبالة لدفنها بعيداً كان خلاله قد فرغ لتوّه من غسل السيارة وتنظيفها، فجاءه “راج” قائلاً :

– “أرباب ، هذا في حمار!”

وانطلقت السيارة في الصباح بعد أن زالت الرائحة التي أزعجت خلاله إلى المدرسة، حيث الكرسي الخشبي على المدخل، وخلاله يقابل الصباح والناس بذات العينين الذاهلتين والرأس الصامت الشارد، ليجلس على الكرسي بصمت   شديد كصمت الموت المرعب، إلا من عبارات الأطفال التي تردد : “جاء خلاله .S. E. L ذهب خلاله .S. E. L “، وإلا من ضحكات ساخرة تئز في الفضاء كأزيز النحل، وضحكات خماس المدوية في سخرية مريرة وهو يتذكر ما قاله أحدهم ذات يوم لخلاله :

– زمن الحمير ولّى !

لكن خلاله  .S. E. L  ما زال ينظر بعينيه في ذهول وهو يجلس فوق الكرسي، في صمت كصمت الموت، مستسلماً كاستسلام الجثة لانثيال الرمال فوقها أو كاستسلام طائر جريح لفخ صياد ماكر!

S. E. L. خلاله طائر جريح في فخ صياد ماكر

عبد الحميد أحمد 

قصص البيدار