رجل بنغش

رجل من (بنغش)

بعد صلاة العشاء، اجتمع الرجال كعادتهم في المسجد، ودار بينهم حديث مشحون بالغضب والتوتر، ومتشنج إلى أبعد الحدود، لم أستطع تمييزه، فقد كنت في العاشرة.

– حافظ أساء إلينا.

– ما فعله حافظ لا يغتفر، بل لا يمكن السكوت عليه.

– لكن هل تأكدتم بأنه على علاقة فعلية بها؟

– رأوه يتسلل تحت جنح الظلام إلى الحقل، وهناك يلتقيان ويمضيان بعض الوقت، يتناجيان ويتهامسان و…

– أكاد أجزم أنهما عاشقان.

– هذا هو الحرام أيها الرجال.

– لقد أساء إلينا إساءة بالغة.

و.. وغلبني النعاس فنمت في حضن أبي الهادر بالغضب، ولما صحوت في الصباح، كان يسود القرية هدوء جنائزي غريب وغير مألوف، عرفت فيما بعد أن حدثاً ما قد وقع.

***

يا لقدر حافظ ومصيره مع حبيبته، كانت نهايتهما سوداء مثل الليل الذي يلتقيان تحت أستاره.

***

لا أدري لمَ عاودتني قصة حافظ في هذه اللحظة رغم مرور أكثر من عشرين عاماً عليها. يبدو أن لها تشكيلاً وفعلاً في داخلي، أو لربما هي تعبير عما يتهشم في قلبي.

ورحت أرقب السماء الزرقاء مرة أخرى.. هذا الطير السابح في الأجواء مجدفاً بجناحيه بحرية، يقصد وطناً لا أحزان فيه ولا يضطره أن ينتف ريشه، لا يشعر بغربة حيثما طار وحل، وهذه الموجة المسافرة على متن البحر من شاطئ إلى شاطئ، هل ستستقر يوماً في ميناء، حيث لا عواصف ولا هواء، أم أنها سترتمي في أحضان أمواج أخرى ويدفعها التيار المخبول للارتماء على الشاطئ لاهثة مقطوعة الأنفاس، كما هي الحال بالنسبة للأمواج التي ترتمي الآن في قلق أمامي؟

تمددت على ظهري فوق الرمل المصقول الأشقر، وأعطيت أذني برهة لصوت الأمواج وهي تعانق الساحل في شوق مجنون.. دفء الشمس الخليجية يثيرني، ويحرك فيَّ كوامن العواصف الممنوعة، ودفء الشرق في قلبي حصن بالكاد أستطيع أن ألوذ به.

***

عشرة أعوام مضت عليّ هنا أو يزيد، قضيتها! لست أدري كيف مرت – بين غبار الصحراء ونقع الأسمنت، وصوت الحجارة ورائحة الطابوق. أعوام قطعتها وحيداً رغم أصدقائي التسعة الذين أتقاسم معهم حجرة في ذلك البناء القديم في “الشندغة”([1]). أحس عمري يذبل في صمت ووحشة الليالي القاتلة تسرق مني الشباب، وتطفئ العيون المشتعلة داخل عيوني..

هل ما زالت الفتاتان الأوروبيتان هناك؟

و … بقوة تشبه السحر، هربت عيناي إليهما. لا تزالان هناك تحت المظلة الباردة تغتسلان في بحر الشمس الدافئة… هذه السيقان البيضاء، وسنابل الشعر الأشقر النامي في مزرعة الشمس، وهذا البطن البض.. الخصر الرشيق المحمول بالأرداف الممتلئة، وعيناي .. بقربهما.. تنظران أشياء أخرى يخلقها خيالي، فيبكي القلب المتعطش شوقاً.. وعينا أمي “خاتون” دامعتان، أكاد أرى بريق الدمع المترجرج من خلف الحجاب الكاسي وجهها، تقول بصوت شرخه البكاء وهي تدفن رأسها في صدري قرب موضع القلب.

– من أدخل فكرة السفر في رأسك؟ قربك جنة يا ولدي.. لا تنس أن تكتب لنا كلما سنحت لك فرصة ، ارحم عجزي، وخذ (هذا) ولا تخلعه أبداً حتى تعود..

.. ودست في جيبي ( كتاباً) علقته فيما بعد في ساعدي الأيمن. أما أبي فقد حمل معي صندوق ملابسي، وخرجنا معاً إلى الفناء، شعرت أمام هامته العالية وصدره العريض ولحيته البيضاء المنسدلة حتى أوائل الصدر، بأني طفل وديع ومتخاذل.. قال لي :

– لا تنسَ صلواتك يا “تازه كَلّ” ولا تنس تلاوة القرآن.. سوف أدعو لك في كل صلاة.

وأخذنا بعضنا بالأحضان.. ثم ودّعني بقوة كعادة الرجال عندنا .. ووجدت نفسي على شاطئ الخليج، ولا أدري كيف أحببت هذا الشاطئ، وكيف نمت علاقة حميمية بيني وبينه، ألأني أكسب عيشي على ضفافه، أم لأن أمواجه المسافرة الغريبة عمّقت شعور الحب بيني وبينه؟

ها هي الثلاثون تطل عليَّ من بوابة العمر، وأنا ملقى هنا على الرمل تأكلني وحدتي، وتنخر الغربة في داخلي حتى النخاع، ويكاد يلتهمني ضياع لم أعرف منبعه بعد..

***

جلست إحداهما، وتناولت من البراد علبتي “بيرة” ناولت إحداهما إلى صديقتها التي ظلت مستلقية على ظهرها في برود.. هذان النهدان المغروران بصباهما.. وهذا الظهر العاري المتماسك البناء.. وعيناي الآثمتان.. ما الذي جرى يا “تازه كَلّ”؟ كيف تسمح لك نفسك بالسوء والرذيلة؟ لكن .. عمري يضيع.. يتسرب من بين الأيام كالماء بين الأصابع، ونار حرماني مشبوبة لا تطاق.. لأشبع أنظاري من هذه المائدة اللذيذة المفروشة فوق الرمال، عمري يتضاءل، وكل يوم يمضي يتحول إلى قطرة ظمأ في جسمي وقلبي.. عذابي أرعن السلوك.. وأنا الوحيد الملقى على الشاطئ واثنتان على بعد أمتار مني، لمَ لا أستلقي بينهما؟ هذا الشعور الجامح والمصر على أن أذهب وأبكي بينهما : …. سيدتي.. خلقت وحيداً، وأريد من يحمل عني وحدتي ويأخذ مني عذابي ويمنحني الحب، كما أحمل الطابوق نهاراً والعذاب ليلاً.. يمنحان جسديهما للشمس بسخاء ولا يلتفتن تجاه هذا المعذّب.. وكدت أصرخ، لكن يدي اليسرى أسرعت تتحسس ساعدي الأيمن فوجدته خالياً.. آه.. نسيت أنني وضعت “الكتاب” في الصندوق.

– خذ هذا، علّقه، ولا تخلعه أبداً عن يدك..

– أنا “يونس خان” الكل يشهد هنا أنني “بتاني” أصيل ومن صلب “بتاني” أصيل، الكل يعرفني بنزاهتي وطهارتي، تذكر ذلك دوماً، وإياك أن تمرغ اسمي في الأوحال، دعواتي لك مع كل صلاة..

وشعرت بابتسامة غريبة تحط رحالها فوق شفتي، وتسربت إلى داخلي علامة استفهام كبيرة. إن لم تكن دعواته قد تخلت عني، فما هذا الذي حل بي ويكاد يزلزل كياني كله؟ ما هذه الدوامة التي تعصف في داخلي كالريح؟

شعور من التعاسة ينزلق فيّ، يبدو أنني لم أستطع الصمود والمقاومة، خمسة أعوام وقفت في وجه الشلال أقاوم بقواي وبكل يأسي، كنت أحس عندها بأنني أذوب رويداً رويداً كقطعة الملح في الماء، وأخيراً انفجر الصمام، فانفجرت، وسقطت صريعاً بين الأحضان الملوثة، تمرغت في أوحال الطريق، مارست الأشياء المخجلة بصفاقة وبلادة لا مثيل لهما..

النساء .. لآلئ لا تخرج من أصدافها إلا عند الزواج في “بنغش”([2]) ، أمي.. هي المرأة الوحيدة التي رأيت منها الوجه والكفين فقط، وطفا وجهها بتقاطيعه الذاوية فوق سطح أفكاري، فتحدرت دمعة ساخنة إلى أعماقي.. (كيف تجرؤ أفكاري الآثمة على استحضار وجهها الطاهر في هذه اللحظة المليئة بالرعونة والحماقة؟).. الطوابير يحتشد فيها غيري كثيرون، ويوماً دفعت مبلغاً من المال نظير الحصول على لحظات محرمة.. رأيت لأول مرة في حياتي جسد امرأة.. رأيت كل شيء باستثناء وجهها.. هل كنت أعمى، أم كنت بعيون أخرى؟..

***

الشمس تتوسط السماء، وأشعتها تعانق جبيني في دفء كسول، آلاف الأفكار، والرؤى، خليط عجيب ومزيج يصعب كشفه يحتشد في رأسي وكأنني في لحظة حلم صاحٍ أو صحو حالم، ورغم ذلك فإني مستلق في استسلام وكأنني في ساعة مصالحة أو مراجعة، وتساءلت في دهشة، كيف غابت عني هذه الأشياء ولم تطرق باب العقل قبل اللحظة؟

– (سوف نزوجك زينب ابنةعمك “بادشاه”).

آخر خبر من أبي في آخر رسالة، زينب رأيتها بأذني وسمعتها بعيني، بذلك تصورت الموقف، فأنا لم أرها إطلاقاً بعد أن صار عمرها عشراً، لكني سمعت عنها من أمي وأبي في أحاديثهما، أبي إذن يريدها زوجة لي، صعب عليَّ أن أتصور كيف يمكن لطهارة زينب أن تستقبل شروري وآثامي.

تعبت من الارتماء على ظهري، فانقلبت على جنبي الأيمن، ها هما عيناي تهربان قسراً وتتطلعان إليهما في رعونة راغبة، لم أدر ما الذي جعلني أغيّر وضعي، هل لأنني تعبت حقاً من الاستلقاء على ظهري، فلماذا لم أستلق على الجانب الأيسر إذاً، أم أنني صرت أفكر بشهوة عيني؟

انبطحت واحدة على بطنها فأثارتني حركتها، وتسنى لي رؤية قفاها الجامح بوضوح.. طفر قلبي وتجمع كله في عيوني، أما الأشواق المذبوحة في داخلي فراحت تصرخ، وأصاب حلقي جفاف مميت، وأحسست بعروقي تنسلخ من الجلد، وحرماني أخذ يكبر حتى ملأ البحر كله، فأغمضت عيني في محاولة للهروب.. جاءتني قرية “بنغش” بجبالها ومزارعها وحقولها، فرأيت أبي فوق حماره ملوحاً لي بيده وهو يقول :

– اتبعني إلى الحقل، لدينا عمل كثير اليوم.

ويمضي أبي فأمضي في أثره ماراً بالبيوت الطينية العتيقة وبالدكاكين المغبرة شبه الخاوية ثم منطلقاً باتجاه الحقل.

– لا تمرغ اسمي في الأوحال يا “تازة كَلّ” أنا بتاني أصيل.. وأنا أرى ما لا تتصورانه يا والديّ.. نجوت من أن يكون مصيري كمصير حافظ الذي أشيع عنه أنه على علاقة محرمة مع إحدى النساء فكانت نهايتهما الموت معاً.

نسمة هواء داعبت “شروالي” الفضفاض، فتحت عينيّ لتصطدما بالوثنين المسجيين، وتساءلت في يأس والنار تضطرم في داخلي : (هل حلمت يوماً في أن أرى ما أرى وأفعل ما أفعل؟ ثم كيف قدّر لي أنا “البتاني” الأصيل كما يقول أبي، المزود بالطهر والدعوات والقلاع الحصينة، أن ألتقي فيما يشبه الحلم الماجن بكل هذا؟ وهل حلمت برؤية هذه الأجساد الآتية من وراء البحار؟ يا لهذا اللقاء الذي حصل على هذا الشاطئ الآمن والمحمي مثلي، كيف تسنى لي أن أستوعب ذلك وأنا الذي أتيت صندوقاً ينغلق على البراءة و”كتاب” أمي، من أجل العمل والكسب ليس إلا).

… ها أنذا رغم التيار أحاول أن أقف في طريق عيني. أدرك أن ما حصل لي قد شتت قواي وبدد معنوياتي كل التبديد، لكن عينيّ هربتا تحملان قلبي بجوعه وحرمانه الذي تصورته يملأ البحر أمامي. مصيدة الشيطان يتقاطر عليها خيال نفسي الظامئة، يد المنبطحة على بطنها تتسلل إلى ظهرها لتفتح حاملة النهدين، فأراني أنسحق في سجني.. حلقي يتحول إلى صحراء عطشى، ولساني أحسه يتشقق وأنا أعاود ازدراد الفراغ في شهوة اليأس.. ورأسي يحتقن ويحتقن ويحتقن، نسمة هواء أخرى عابثت في خبث “شروالي” .. دوار.. أصابني، دوار كدوار المصفوعين، أغمضت عينيّ لائذاً بالهروب، شقراوان، وهمجي معاً يصب فيهما عشقه وأنهار حرمانه وجبال بلاده ومزارعها وحجارتها وجوعها ودعوات أمه وأبيه، يجتاح بأعاصيره وأحزانه ضفاف الماء والأحلام الساحرة المحرمة.

– سوف نزوجك بزينب ابنة عمك ” بآآآآآدد.. شـ آآآآه ه! “دوار… عيناي في الدوار، كدوار البحر، غامت الرؤى، وغبش رمادي يغطي كل شيء..

فتحت عينيّ .. اختفت الشقراوان.. ومرق طائر أبيض يرف بجناحيه.. انزلقت إلى نفسي المرارة والسخط والكراهية العمياء لكل شيء..

***

غادرت الشاطئ قبيل المساء، وهمت في طرقات المدينة العامرة بالناس والسيارات والمقاهي والحياة، أحمل حطاماً كئيباً مملوءاً بالاحتقار والمرارة. لعنت كل شيء .. كل شيء. حتى نفسي.

ولما عدت إلى السكن، كانت الشمس تنسحب من العالم في صمت. زملائي لم يعودوا بعد. أذان المغرب ينصب في مسامعي عذاباً. أشعر بالدنيا كلها تعذبني، بي رغبة عاصفة إلى البكاء. يتكدس الصراخ فوق شفاهي بلا ضجيج، المرارة في داخلي تدمرني، وذنبي يخنقني بلا رحمة.. في بطء سلحفائي اتجهت إلى المرآة المشروخة المعلقة فوق الحائط المواجة للباب، دهمني إحساس بالرثاء لنفسي، كما لم أحسه من قبل و.. آه… شعرة بيضاء ! ثلاثون عاماً أو يزيد إذن ! وهربت من أمام المرآة أذوب خجلاً من نفسي، سقطت عيناي فوق الصندوق، فتحته، وتسللت يداي في لهفة تبحثان عن “الكتاب”. لم أتردد لحظة في إعادته إلى مكانه، وبتلقائية باردة رحت ألملم أشيائي وأرتبها في الصندوق. هدأت الأعماق المضطربة، وبدا شعور مبهم وصافٍ كجدول الماء يتدفق إلى شراييني.. تنبهت على صوته يتساءل:

– ماذا تصنع يا “تازه كَلّ”؟

– ألملم أشيائي كما ترى يا “ظفرخان”.

– هل نقلت إلى مكان آخر للعمل؟

ولا أدري كيف وما الذي جعلني أقرر أمراً وبسرعة..

– كلا، لم أنقل ! سوف أرجع إلى “بنغش” سوف أسافر غداً..

الدهشة ترتسم على وجهه، ثم ارتسمت على وجوه رفاقي فيما بعد.

واستلقيت على فراشي طلباً للنوم، ولكن النوم هرب من عيوني، فرحت أرقب طلوع الفجر بينما يدي تلامس بقعة خشنة في “شروالي” إثر لزوجة كانت قد جفت.

[1]) “الشندغة” : من أحياء دبي القديمة، هجرها الأهالي ليسكنها العمال الأجانب. 

[2]) “بنغش” : قرية من قرى الباتان. 

رجل من  (بنغش)