في العتمة الدامسة استطعت أن أتذكر كيف أمسكوا بي، فقد كنت أركض، وكانت الدنيا تركض من أمامي وأنا أريد أن أتشبث بأثوابها في محاولة للهرب، وكانت سرعة الدنيا جنونية، والنباح يطاردني، يريد أن يلحقني، يمزق فؤادي، لكنه كان لا يخيفني، العرق غطى وجهي وصدري وبلّل شعر رأسي، والتعب استبد بساقيّ، ورغم ذلك كنت أركض بلا جدوى، ويستمر النباح في التصاعد، والركض بجنون وفجأة رأيت الدنيا تضيق أمامي وتصغر، وجدتني أدخل في دوائر تضيق شيئاً فشيئاً، وفي خضم العرق والإرهاق والنباح همست لنفسي، “لو أنني خلقت سفاحاً من البداية لما استطاع أن يفلت من قبضتي”. ها هي كلابه تجري خلفي، وها هو ذا الملح يتساقط فوق وجهي ويتسرب إلى عيني ، يحرق جفني، وأنا رغم ذلك أستمر في الركض، فقدت الإحساس بالأشياء المارقة من حولي وفي عكس اتجاهي، ولم أفقد إحساسي بالحياة. يتشقق لساني في صحراء فمي، الجفاف يغمرني، والدوائر بعد ذلك لا ترحم، تشد خناقها حولي، وتضيق. الملح والغبار يشكلان نهراً يفتح له مجرى في مقلتي، وتذكرت أيضاً كيف اسودت الدنيا واصفرت أمامي، لكنني لم أستطع أن أتذكر كيف سقطت، ولم أدر حتى الآن هل سقط النباح أم لا.. وكل ما علمته بعد ذلك أنني وجدت نفسي هنا.
الظلام ألف عين وألف أذن وألف لسان، والظلام حرية هنا، الجدران التي أشم رائحتها تحنو عليّ، تكلمني، وتسمعني حين أتكلم، ولا تصفعني. كنت ولا زلت بسيطاً للغاية وواضحاً مثل الشمس، أفكاري كانت في لون القطن وقلبي كان نهراً ماؤه الحب، هل جفّ النهر الآن؟ وهل صار القطن ثوباً على جسد كلب؟
***
أمي بقعة، لكنها في حجم الكرة الأرضية، تمزق الذاكرة التي تحاول أن تغفو، تستيقظ الأشواق وترحل إليها، وأرحل أنا في هيكل الحزن.
– أنت تحب أمك أكثر مني.
– ألم أخرج من رحمها؟
صفعة قوية تلقاها رأسي، فرحبت به الغيبوبة، ولما أفقت، وجدت شعرها فيئاً لذيذاً، فألقيت رأسي المتعب فوق صدرها في شوق، ودخلت في حلم حزين،.. لكم أحبك يا أمي، آه .. لو أني لم أفشل! وجاءتني في الظلام روائح المراحيض الآسنة، لعله يأتي كعادته كل نصف ساعة، وعندها سوف يطل من خلف الحديد موجهاً حزمة من مصباحه إلى وجهي الذابل وسيرمقني باحتقار، ثم يختفي ببدلته الكحلية اللون.
واستندت بظهري إلى الجدار في جلستي المتضعضعة، أفكاري لا تستحي هنا، ولا تخشى الجدران، تجوب بحر الظلام بحرية، ها هي جراح الذاكرة المهشمة تنفتح في داخلي.
قبل عام، تمددت فوق الحصير بعد الغداء، أشعلت سيجارة ثم فتحت الكتاب وبدأت أقرأ، فجأة دهمني كالعاصفة :
– ماذا تقرأ؟
– كتاباً كما ترى..
اختطفه من يدي، ووقف متوثباً كإبليس، يا لسرعة حركته وانقضاضه.
– أيها السافل، تقرأ في الجنس.
– لا بد أن أقرأ في كل شيء، في الحب، في الفلسفة.. وانفجرت صفعة فوق خدي، وتلتها ثانية وثالثة، مزق الكتاب، أشعل فيه النار، وخرج كالمارد.
انطلقت زفرة مني، آه، كم أشتهي أن أقرأ كتاباً جنسياً قذراً! شهوة اليأس تحطم الفجر المتوالد في قلبي، البكاء يتمطى فوق شفتيّ، وصرصار يهسهس فوق رقبتي في رعونة، أثار فيَّ قرفاً، نفخت فيه، فمرَّ بسلام.. وقفت، خطواتي تهمس فوق الأرض الباردة، الدنيا صامتة، لكن أفكاري تصرخ. أتاني الدفء من رأسي، عيناي تصطدمان بكتل السواد وأبقيهما مفتوحتين، كم صرت أدرك معالم المكان مثل الحمار! لو يأتيني في هذا الظلام، فأمزق قشرة رأسه بأسناني وأرتاح… ألم يزرع في حديقة حياتي السم؟
شجوني المضطهدة ترسم جرحي المتعفن في الرأس، وأبكي في صمت وأتذكر..
– سوف أبني لي غرفة في البيت.
– أنت !
– نعم أنا ..
– سوف آتي بمن يقوم بذلك.
– اترك لي الفرصة، يجب أن أثبت أني قادر.
– كلا.. أنت لا تفهم إلا لغة واحدة.
وكلمني باللغة المعتادة والتي أفهمها فصفعني، وبنى مهندسوه الغرفة وأكلت الحجارة والطين، وبكيت أنا وأمي في صمت أخرس.
– أعلم أنك لا تحبه.
– أكرهه حتى الموت .
– يا ولدي.
– يصادرني، لست حيواناً.
– أعلم ذلك.
– اصدقيني القول يا أمي، أي عاطفة تربطني به؟
– لم أفهم ما ترمي إليه.
– بل تفهمين.
– تعلم يا ولدي أنك لا ترتبط مع أحد سواي، فلذة كبدي أنت وجزء مني.
في السواد حيث أنا غارق في الحزن البارد، فاضت عيون أمي وبللتني. أكاد أحس رطوبة دموعها، كيف قدر له أن يملك كل ما حواه جسدك؟ ليتني أحكمت الضربة منذ البداية فقضيت عليه.. وأغمضت عيني في يأس.
الحزن يعاودني مثل الحمى فأرتعش، واليأس يكاد يغرقني في متاهة العدم، أغرق فيه وحيداً، و”العسبج”([1]) ينمو في داخلي بشراهة. ها هو الحذاء يقترب من الممر ببطء، يبدد السكون، خافت أفكاري فهربت إلى جحرها، جاء، سقطت كمية هائلة من الضوء القوي فوق وجهي، وللحظة أدركت أن الظلام رحمة للعين المعذبة، تبينت شاربه الغليظ من انعكاس النور الباهت المتسرب من مقدمة المصباح، وبصوت يشبه عواء الريح في ليالي الشتاء الموحشة قال :
– لماذا لم تنم؟ الصبح يقترب..
– أنام النهار كله.
وأطفأ المصباح، وانسحبت إيقاعات حذائه المنتظمة في الممر الطويل، واقتحمتني رغبة في أن أبصق، فبصقت.. للظلام رائحة أشمها مع رائحة الجدران الرطبة والمراحيض الآسنة، سرت رعشة في جسدي، البرد يتكاثف من حولي، ورغم ذلك شعرت بالعطش، مددت يدي، الجردل فارغ، تمكنت من اكتراع آخر قطرة فيه.
تلك الفكرة البيضاء ـ قالوا إنها سوداء – احتلت ركناً في رأسي فترة من الزمن، اتسعت مساحتها وصارت استبداداً يعصف بي.
– وددت لو كنت مجرماً عتيداً.
وردت بنبرة حانية كعادتها :
– الملاك لا يصير مجرماً.
– اشتهاء التخلص منه لا يرحمني.
– أخشى عليك منه يا ولدي.
– ظلم أحمق يهد كياننا.. ألا تشعرين؟
– أشعر .. وأخاف عليك.
ولم تدر أمي أن الغضب تفاقم داخلي، وأن مراجله أخذت تغلي.. وكانت السكين في يدي ذات يوم، ها هو ذا غارق في عمل ما.. حانت الفرصة ولا بد من انتهازها، سوف ترتاح أمي وأرتاح أنا، وفجأة، وجدتني أركض. كيف حدث هذا، لا أدري، كل الذي أذكره أنني كنت أركض، والدنيا من أمامي تركض، والنباح من خلفي يركض، وأن الدنيا دوائر صارت تضيق وتضيق حتى سقطت غائباً عن الوعي.. وسألوني لما أفقت :
– تآمرت على قتله يا كلب. .
– لم أتآمر مع أحد، أنا الذي أردت قتله بنفسي.
– وتعترف أيضاً..
– نعم أنا الذي أردت التخلص منه.
– لولا لطف الله لقتلته أيها المجنون.. ألا تعلم أنه أبوك؟
– ليس أبي، هذا ما تحاولون تثبيته لأنكم خدمه ورجاله.
– اسكت يا كلب.. خذوه..
صياح ديك يترامى إلى مسامعي من بعيد.. أنوار الصباح الأولى تغمر الزنزانة، وجسدي متعب نهشه السهر، أكاد لا أقوى على الحركة.
جاء الشرطي كعادته كل نصف ساعة، فتح الباب الحديدي، ثم وضع إناء صغيراً على الأرض.
– الإفطار .
– وأين الماء؟
– لك جردل ماء كل ثلاثة أيام .. هل نسيت؟
– أكاد أموت عطشاً.
– فلتمت يا كلب.
ورفسني في مؤخرتي.. وخرج، ورحت أرقب الفتحة المغطاة بالقضبان الحديدية في بلاهة، حتى ثقل جفني، فاستلقيت على الأرض وأنا أسمعها تعزف أغنية بيضاء بدأت تأتي من بعيد.
[1]) “العسبج” : نبات صحراوي يخرج سائلاً أبيض ساماً.
أغنية بيضاء في ليل دامس