اذا كانت حرية الصحافة تعني توجيه النقد الى وزارات ومؤسسات وهيئات دون غيرها، والى مسئولين دون آخرين ومواطنين دون مواطنين، فتلك حرية ناقصة ومنقوصة، لانها انتقائية وغير عادلة، سرعان ما تخسر مصداقيتها عند المواطنين عموماً وجمهور القراء خصوصاً .
ونعرف ويعرف الناس كلهم انه لا توجد اليوم وزارة او مؤسسة او دائرة إتحادية او محلية تخلو من مشكلات واوجه قصور ونقص ومخالفات، فالكمال لله وحده وليس لبني البشر، وعليه فان قصر التحقيقات والحملات والحوارات والانتقادات الصحفية على جهات دون اخرى، يجعل هذه التحقيقات والحملات والانتقادات مشروخة الصواب والمصداقية ويجعل الصحف اما ظالمة لانها لم تعدل حيث يوجد نقص وخطأ، وإما مسيّرة، اي فاقدة للاستقلالية والنزاهة معاً.
وصحيح ان وزارات كالصحة والتربية والعمل مثلاً، هي اكثر الجهات تماساً يومياً مع الناس ومصالحهم ما يجعلها اكثر عرضة للنقد ولوضعها تحت مجهر الصحافة، إلا ان هناك جهات اخرى لا تقل عنها أهمية في تماسها المباشر مع مصالح الناس وحياتهم، كالكهرباء والماء والاعلام والبلديات والشرطة وغيرها، فأين هذه من اهتمام الصحف ومدافعها، طالما ان حرية الصحافة مطلوبة على الجميع وللجميع؟ وعلى مثل التساؤل السابق يمكن ان يسري تساؤل آخر لا ينفك يتردد على اذهان القراء والمواطنين هو، هل يمكن للصحافة ان تتعامل مع الوزراء والمديرين والمسئولين عموماً على قدم المساواة، فيأخذ كل منهم نصيبه من النقد والمكاشفة والهجوم كلما كان لذلك ضرورة يستدعيها اداء وزارته او ادارته او وجود مشكلات فيها؟ ومن يحمي بالمقابل الصحفي من ردات فعل بعض المسئولين فيجعله آمناً في نقده وجريئا من دون خوف؟ لقد عشنا عمرنا في الصحافة وهناك مسئولون يمكن باستمرار نقد وزاراتهم وكشف أداء موظفيهم وعدم جودة خدمات قطاعاتهم، مقابل آخرين لا يمكن مجرد التفكير في تناول قضية تتعلق باداراتهم او وزاراتهم، بما في ذلك مسئولون على مستوى البلديات وما هو اقل من ذلك، اذا اردنا الابتعاد عن الوزارات، فاذا كانت حرية الصحافة لن تلغي هذا التمييز وهذه المعاملة الانتقائية، فإن هذه الحرية يمكن ان نصفها بأي شيء الا ان تكون حرية صافية.
مع ذلك فإننا كصحفيين نرحب بهامش الحرية الجديد هذا، وبارتفاع نبرة خطابنا الصحفي وتوجهنا الاعلامي، فاذا اتسع هذا الهامش اليوم ليشمل عدداً من الدوائر والجهات والمؤسسات، فانه بالتراكم والخبرة وبقدرة صحفنا على ادارة معركة توسيع الهامش، نستطيع ان نصل بشجرة حريتنا هذه لتظلل كافة المؤسسات برعايتها ونقدها ومتابعتها، ذلك لان حرية الصحافة يمكن ان تبدأ من قطرة بعد قطرة، مثل كل الانهار في بداياتها الاولى.
ونختم بالنتيجة ان حرية الصحافة يمكن ان تبدأ ضئيلة الشأن فتكبر في حال توفر شروط نموها، كما انها حرية غير منقوصة، وغير انتقائية، وانها متى ما وقعت اسيرة الجمود والانتقاء تحولت الى كرباج ليس إلا، فهل يسارع الصحفيون انفسهم طالما ان الكرة في مرماهم الى تنظيم احوالهم كي يحصلوا على حرية تليق بهم، لا حرية تعبث بهم؟.
عبدالحميد أحمد
التاريخ: 17 أكتوبر 1999