زعموا أن ناحل بن راجل العاري الملقب بأبي جائع المطحون كان يمشي هائماً ذات مساء مثقلاً بالدبق والرطوبة، إذ داعبته نسمة هواء طائشة تحمل رائحة اللحم المشوي. كان يحمل رأساً صغيراً، يشبه رأس سلحفاة عمرها ألف عام، يصله بكتفيه العريضتين وصدره الواسع رقبة دقيقة كالحبل، وفي وجهه غاصت عينان صغيرتان ذابلتان، بينما امتد منخاراه إلى الأمام طويلان كخشم المهرج.
وشعر ناحل بلذة غريبة، إذ التقط أنفه رائحة اللحم العابقة في الطريق المزدحمة بالناس. في البدء اقتحمت خياله، ثم صعدت إلى رأسه كالسحر، ثم نزلت على بطنه كالحصى ليجد أن لحيته لم يطلها موس الحلاقة منذ مدة طويلة قد تبللت بلعابه الذي خرج من جانبي فمه ليسيل لزجاً، وصار، وهو يمشي مهموماً تحمله قدمان مفلطحتان عريضتان، يمضغ لحماً مشوياً، كباباً، وتكة وَرِيَشاً، ولم تصدق مسحوقة أن أبا جائع يأكل لحماً، إذ دخل عليها البيت في المساء نهضت إليه خفيفة كعنزة جبلية، وقالت له:
– أحلم أم حقيقة؟
– حقيقة يا أم جائع.
وسألها :
– أين جائع، وأين مقهورة ومقموع؟
– ناموا جميعهم.
وأضافت :
– يا حسرتي مثل كل ليلة.
لكن أبا جائع همس لها بإصرار:
– أيقظيهم .. اللحم كثير، ولا يمكن أن يناموا وبطونهم خاوية.
ولحظات، كان ناحل ومسحوقة وأولادهما يتحلقون حول “موقد” أينعت فيه النار جمراً محمراً، وأثمر لحماً بهيجاً يفوح منه عطر أخاذ، وبينما كان أبو جائع يجلس صامتاً كان يقلب عينيه بين امرأته والأولاد الضاجين بالمرح وهم يتناولون القطع الساخنة ويمضغونها في اشتهاء ويمصمصون العظام اللينة وقد أشرقت فوق وجوههم الباهتة شمس صغيرة لامعة، ثم يدفعهما باتجاه الدخان الذي غمر فناء البيت في دوائر متصلة سرعان ما يحملها الهواء بعيداً لتتلاشى، وكانت مسحوقة تقطع عليه صمته بين فترة وأخرى، وهي تثرثر :
– ليتنا كل ليلة هكذا.
ويرد عليها باقتضاب.
– سنأكل لحماً كثيراً.. وكل ليلة منذ الآن.
– وسنخرج إلى الحدائق مع الأولاد.
– عليك أن تهتمي بصحتك يا أم جائع.
– لماذا؟ وهل أنا أهمل صحتي؟
– ولدنا القادم أريده سميناً معافى.
– قل إن شاء الله يا رجل.
– إن شاء الله .
– هل ستسهر معي الليلة.
– حتى الصباح يا مسحوقة.
– آه.. كدنا ننسى أننا بشر لا أخشاب.
– سنلعب الورق أولاً.
– ثم نشرب الشاي – لدينا شاي.
– ثم نتعانق
– ….
– نتعانق وننام
– ……
هل تستحين؟
لكن أم جائع أشارت بعينها إلى الأولاد فصمت ناحل، وطفق يتسلى بالدخان الصاعد حاملاً رائحة لذيذة أثارت في قلبه شهوة الظمأ ونزلت إلى بطنه ثقيلة كالحصى، وصار بدنه يرتعش من لذة الهضم، وترتجف يداه الطويلتان الغليظتان، إذ تلامسان لحماً حقيقياً دافئاً، بشحمه وعظمه، وبقايا دماء فائرة قانية اللون، وتنتقلان ببطء من ذبيحة معلقة إلى أخرى، لتنتقل إلى جسده رعشة ساخنة يحسها تشتعل في أطرافه وفي عينيه وفي رأسه، ثم تسقطان على الجزار السمين الواقف في صدر المحل وفي يديه سكين طويلة حادة وساطور مسنون، ينتظر الزبون الذي ولج عليه المحل كي يبدأ في تنفيذ طلباته، ولما عرف أبو جائع أنه في محل تفوح منه رائحة اللحم الطازج الحار، وشعر بالجزار المرتقب، فتح فمه المتهدل قائلاً : أريد لحماً؟
جاءه صوت خشن وحاد :
– كم كيلو؟
– اثنان.
ثم أضاف في خفوت بينما بدأ الجزار يشحذ السكين على قطعة جلد خشنة متأهباً :
– بكم الكيلو ؟
– بعشرين درهماً
كان صوت السكين، إذ كان الجزار يمررها على الجلد جيئة وذهاباً يملأ المكان حفيفاً كحفيف أوراق الشجر، وناحل تسللت يده إلى جيبه، حيث تقبع العشر دراهم التي استلمها مساء، بعد أن أنهى عمله اليومي، ولم يجدها هناك فشهق شهقة مكتومة انتبه لها الجزار :
– ما بك، هل أنت مريض.
ومثل طفل يضبط متلبساً، تلعثم ناحل، ثم قال :
– لا شيء.. لا شيء، ولكن قل لي ألم يكن الكيلو بخمسة دراهم؟
جلجلت في المكان ضحكة مرعدة هزت الأرجاء، وتأرجحت قطع اللحم المعلقة كأنها في مهب ريح عاتية، كان الجزار يقهقه عالياً وقد انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه اللتان راح يمسحهما بقطعة قماش، وأبو جائع يقلب ناظريه مذهولاً، ليس من الجزار الذي تحول إلى لحم مترجرج من أعلاه إلى أسفله، ولكن من ذلك الإبليس الذي استطاع أن يسرق من جيبه أجرة يومه، ليقف في خنوع وانكسار أمام الجزار، الذي هدأت رعوده أخيراً، وقال ساخراً:
– إما أنك مجنون، أو أنك غريب عن المدينة، أو أنك….
ثم سكت برهة، وقال مقطباً حاجبيه الكثيفين :
– دعني أسألك .. منذ متى لم تشتر لحماً؟
ثم عاد مزمجراً بضحكته المجلجلة، وقال هازئاً :
– من عشر سنين كان بخمسة دراهم، هل كنت ميتاً وعدت إلى الحياة الآن؟
وعادت ضحكته تدوي وتصفع الجدران صفعاً ثم ترتد أصداؤها المريرة كالمسامير تلفح وجه ناحل، وتنغرس في أنفه الطويل الممتد إلى الأمام في وقاحة وقبح، وشرع الرعاف ينز منه، ليتساقط قطرات قطرات على لحيته التي لم تذق طعم الموس منذ مدة طويلة، واختلطت فيما بعد بالدماء الفائرة المنبثقة من أصابعه، إذ راحت تلامس السكين بشهوة في البداية، ثم تضغط عليها ضغطاً مميتاً، حتى انفصلت من راحتي يديه.
كان يشعر بلذة كلذة اللحم المشوي الحار وكطعمه الخرافي الذي حملت رائحته نسمة طائشة، هائماً في فراغ لا يحس فيه برنات ضحكات الجزار المتواصلة الصاخبة، لذيذة سخونة الدم، التي لوثت ثيابه من أصابعه المبتورة، ومن يديه اللتين راحتا تضغطان الساطور والسكين لينغرسا في لحم ناحل الذي أصبح الآن مزقاً من اللحم والعظم في نافورة من دم، كانت السكين والساطور يفرمان أبا جائع فرماً وهو منتشٍ انتشاء لم يشعره طيلة حياته، كمن تدغدغه امرأة، فاتنة السحر يلج فيها ويغيب في الرعشة الأزلية الموجعة.
وبعد أن تناثرت أشلاء ناحل في أرجاء المحل، ولطخت دماؤه الصفراء الجدران، كان الجزار قد توقف عن ضحكه المر وصخبه المدوي، فبدأ في جمع المزق واللحم المتناثر ووضعه في واجهة المحل، ثم حمل الأحشاء القذرة ورأس أبي جائع الصغير الذي يشبه رأس سلحفاة عمرها ألف عام، وألقى بها في صندوق القاذورات، حيث الأحشاء والسيقان والأظلاف والشعر والشحم الزائد والروائح النتنة المنبعثة منه في الركن الخلفي من الدكان، وعاد إلى الواجهة ينتظر زبوناً جديداً في اللحظة التي خرج فيها من الصندوق صرصور أسود اللون هزيل، دب على الأرض زاحفاً من بين رجلي الجزار، وخرج إلى الشارع متلمساً طريقه على الرصيف في حذر وتردد.
كان يتجنب الأرجل الكثيرة التي تضرب الرصيف وتمضي، دعسة واحدة وينتهي، وزيادة في الحذر توقف حين لمح شقّاً في جدار، ثم اندفع إليه وكمن فيه مراقباً حركة الأرجل السريعة التي تذهب في اتجاهين حتى هدأت ثم توقفت نهائياً..
كان الرصيف خالياً آخر الليل فخرج مطمئناً، وزحف ببطء على الرصيف حتى وصل إلى بالوعة مفتوحة، ودون تردد هبط فيها بعد أن أعياه التعب والزحف غير عابئ بالرائحةالكريهة والظلام الحالك، شعر بأمان تام فراح يتأمل دوائر الظلمة المتكاثفة من حوله ويعصر بطنه عصراً يغالب به الوخز الدامي، منتظراً طلوع الصباح بفارغ الصبر.
وحين أشرقت الشمس تأهب للخروج بحثاً عن طعام، وكانت الحركة قد عادت إلى الرصيف الميت، ومرّ عمال البلدية في أول الصباح يلتقطون النفايات ويبيدون الحشرات، فداهمته أبخرة داكنة، اقتحمت عليه البالوعة وسدت أمامه المنافذ فلم يستطع الخروج، وسرعان ما ملأ البخار السام جوفه فسقط ميتاً في القاع، وحملته المياه في البالوعة مع أشياء أخرى إلى البحر الكبير، حيث التهمته سمكة إفطاراً لها.
هذا ما زعموه عن ناحل بن راجل العاري الملقب بأبي جائع المطحون، إذ كان يمشي هائماً ذات مساء فداعبته نسمة طائشة، لكنهم لم يزعموا أن أبا جائع صار صرصوراً، كما لم يخبروا عن مسحوقة وأبنائها شيئاً.
من المجموعة القصصية (على حافة النهار)، إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992