خروفة

خروفة

وإذ صَحَتْ من نومها ذات صباح هتفتْ أم عبدالله مذعورة” “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من كل ذنب عظيم .. أي حلم هذا؟”.

وبدأت تسرد لنفسها الحلم المرعب الذي رأته، وكان النسيان قد ضرب جداراً أسمنتياً مصفحاً بالحديد والكونكريت حوله، لقد رأت فيما يرى النائم جمجمة محمد صالح قد تهشمت فوق الطريق وتناثرت شظاياها، وكان الدم القاني يسيل مرتعشاً على الأسفلت الساخن الأسود فيما سيارة داكنة تغيب في المدى، وصرخت تنادي حفيدها في وجل : “اذهب إلى المسجد وأخبرني إن رأيت محمد صالح هناك.. هيا”. وتلفت الصغير حواليه مستفهماً، عما تريده جدته بالضبط، عن أي مسجد تحكي وأي محمد صالح هذا الذي لم يسمعها تذكره قط إلا في هذا الصباح؟

ولم يكن إلا خرافة حقيقية، هكذا تحول من إنسان إلى بقرة، وهكذا كان يشير بإصبع على أية حشرة تمرق من أمامه فتجمد جمود الموت، وهكذا كان كلما أمطرت السماء الشحيحة يمشي تحت المطر دون مظلة ودون أن يبلله المطر الذي كان ينزل من على جانبيه لأنه تناول كسرة من “تركة صالح” وكان وحيداً أسطورياً، وكانت الوقائع في حياته عجيبة وكأنها من نسج خيال أو أوهام مريض أو اختراعات الكبار للتسلية أو لتخويف الصغار أو لأسباب أخرى أياً ما تكن هذه الأسباب.

وعلى الرغم من ذلك مضت حياته دون أن تدهش أحداً ودون أن تثير حتى الأسئلة، ومضى وحيداً في عالمه الخاص، في صومعته التي اختارها دون أن يدري أو بدراية تامة. لم يكن واحداً من أولئك الذين يقفون خلف الإمام وحين يفرغون من الصلاة يجلسون خارج المسجد في ظلال الغروب للدردشة، ولم يكن واحداً من أولئك الذين ينسلون إلى بيوتهم في المساء ليداعبوا أطفالهم على ضوء الفوانيس، والكهرباء فيما بعد، وحين يدلهمّ الليل يسحبون الغطاء فوقهم لينعموا بدفء الزوجات، لم يكن من أولئك الذين يسألون عن الآخرين من الأقارب أو الأصدقاء أو يسأل عنهم الآخرون من أقارب وأصدقاء. لم يكن محمد صالح إلا رجلاً وحيداً، يعرف الناس عنه الكثير ولا يعرف الناس عنه أي شيء، في عالمه الخاص الخرافي والمطلسم بالغموض، عالم أقرب إلى الدروشة أو الصعلكة أو التصوف أو الجنون أو الوحدانية السابحة في فضاوات من وهم وخيال أو حقائق. لم يكن ثمة مسافة بين الحقيقة والخيال، وبين الوهم والواقع إلا محمد صالح الذي كان منذ سنوات عدة تروي عنه أم عبد الله وأخريات حكايات وأساطير وعلى شاكلتها فإن جميع العجائز والشيوخ من الرعيل الأول من الجدات والأجداد والآباء والأمهات في الجميرة، يروون عنه ما قد لا يصدقه عقل أحد اليوم من جيل اختلف لون بشرته وخلايا عقله ومشاعر قلبه، لكنهم يقسمون بالله وبأولادهم وأولاد أولادهم أن ما يقولونه عنه ليس فيه من الكذب مثقال ذرة، إذ إنه إنسان تواجد بقدرة قادر وما زال موجوداً كما كان منذ الأزل لولا أن ضمير الزمن الميت لم يعد باستطاعته تذكره أو حتى تقديم العزاء أو مشاعر الدهشة له.

وحين كنا صغاراً نذكر أن البحر الهادئ في أيام الصيف كان يضمنا لساعات، وأثناء رجوعنا إلى البيوت كنا نعرّج إلى مسجد الحي كي “نتعذب” وكنا نراه هناك، ولربما رآه آباؤنا من قبل ذلك في المكان نفسه، ولربما رآه أولادنا غداً على الوضع ذاته،  هناك في بهو المسجد يتنسم الهواء الآتي من أعماق الخليج. إما مستلقياً على ظهره يحدق في الفضاء بعيون مطفأة وكثيراً ما كانت أجزاؤه السفلية وعورته عرضة للهواء الطلق دون ساتر، وإما يصادف وجودنا وجوده على البئر، حيث يكرع من الماء كميات لا تُصدق، ولم يكن مثيراً لنا، سوى أنه من عابري السبيل أو معتوه أو من رواد المسجد، ولم يعلم أحد من أين أتى ومن هم أهله وماذا يفعل، بل إن أسئلة من ذلك النوع لم تخطر في بال أحدنا في تلك الأزمنة البسيطة التي ولت الأدبار محمولة على كف شيطان.

وفي الصباحات الجميلة وقبيل بزوغ الشمس تكون الجميرة شبه نائمة، والصبح آخذ في التنفس برخاوة ولين، والخيام تبدأ تستيقظ لتهب منها روائح القهوة المعطرة بالهيل وروائح الخبيصة والعصيدة ودقات”المناحيز” تتصاعد لتفض بكارة الفجر ومعها يتصاعد صوت الديكة، ومن ثم يرتفع صوت “محمد بن عيسى” المؤذن، تحكي والدتي، أنه في الصباحات الجميلة تلك كان يأتي ويتكرمش في عتمة الفجر المنبلج شمال بيتنا، وإذ تراه تقول : “جاء يريد مقصاً ومرآة..”، وتقول جارتنا أم محمد إنها كلما رأته في الموقف ذاته عرفت أنه يريد فنجاناً من القهوة مع حبات من الرطب، وأم سعيد تقول إنه يريد كلما أتى في خيوط الفجر الأولى إبرة ليرتق ثقباً أو شقاً في ثوبه. وقد صار عرفاً سائداً كما أكد حمدان بن كنتوت، لدى الأهالي أن له دورة كالدورة الشهرية لدى المرأة، أو كبزوغ الشمس والقمر أو كتعاقب الليل والنهار، يظهر فيها أمام بيت ما لحاجة ما، فمن بيت فلان يريد مقصاً ومرآة كل شهر ليقص لحيته وعانته كما أكد ذلك “غريب الغمري” الذي أشبعه البترول موتاً، إذ رآه مرة يكشف عن أسفله ليقوم بعملية القص فيما  هو يراقبه بحذر من  خلف إحدى الخيمات، ومن بيت فلان يريد  إبرة.. وهكذا.. وحيداً أبداً، صامتاً مغلقاً ليس ثمة بيت أو مال أو بنون أو أهل.. وليس به مس الجنون، هذا ما أكده الجميع، إذ إن محمد صالح، كما أكد سيف بن خلف مراراً، رجل تقي صالح حقاً اتخذ من المسجد بيتاً مؤبداً له، في ركن من المسجد كان يقعي مسنداً ظهره إلى صرة لم يعلم أحد ما بها لسنوات طويلة حتى اكتشف سيف بن خلف أن بها عباءة لا يلبسها إلا نادراً، يرتدي ثوباً مصفراً وحيداً لا يملك غيره تفوح منه، ليس من الثوب وحده وإنما من الجسد كله رائحة خليط من بقايا طعام فاسد وعرق  وبول وإفرازات جسدية أخرى، وعلى رأسه غترة حال لونها إلى لون الليمون اليابس، ورأس كبير، وعينان غائرتان مطفأتان شبه مغمضتين ولون جفنيهما كلون الرماد وفم خالٍ من الأسنان،  لكنه دائم الحركة وكأنه يعلك أو يجتر كالبعير شيئاً، فم دائم التمتمة والهمهمة والحمحمة والتجشؤ، وجسم ضامر نحيل تبدو نتوءاته العظمية بارزة، إذ يكسوها جلد باهت تمتد فيه شبكة طويلة من العروق الزرقاء والخضراء والسوداء. في الركن الشمالي من المسجد أبداً مجلسه وعالمه الصغيرة الكبير، الضيق واللا متناهي، وكثيراً ما كان يشاهد وهو يحادث أحداً ما أو شيئاً ما أمامه لا يراه أحد غيره بحركات من رأسه ويده ولسانه، ويذكر سالم بن يديده في المجالس أن الرجل اختار المسجد سكناً كي لا تفوته فريضة من الفرائض، لكن سيف بن خلف قال إن ذلك ليس السبب، فمحمد صالح لا يصلي دائماً مع الجماعة، وإذا صلى معهم لا يراعي الإمام، فكثيراً ما سجد، إذ كان المصلون راكعين، وكثيراً ما ركع، إذ سجدوا، وجلس إذ قاموا، على الرغم من ذلك، يؤكد راشد العود، أن الرجل يتمتع بقدرات خارقة، حباه الله بها من بين العالمين، فهو يحفظ القرآن كله شرحاً وتفصيلاً ويعرف مواعيد الرياح والعواصف ومواعيد ثوران البحر وهدوئه ومتى يهل الشهر ويبزغ القمر، ولذلك كثيراً ما استعان به البحارة والسماكة، خاصة في الشتاء حيث تهب رياح الشمال العاتية وتفاجئ الجميع، فللرجل حسابات دقيقة يعرف بها الطقس وتقلباته. ويضيف راشد العود أن محمد صالح مبارك، من أولياء الله المختارين ، وكلمته ودعاؤه مستجابان من الله القدير، ويستشهد بحادثة تؤكد كلامه، حيث أصابت يوماً ابنه الصغير شوكة لخمة، إذ كان يستحم في البحر، فمرض مرضاً شديداً وكان سيقضي، يقول راشد العود : “نعم كان سيموت، لولا أن أخذته إلى محمد صالح  القابع في الركن المبارك ليقرأ عليه وله، ويعمل له كتاباً وضعته تحت رأس ابني”، ويقسم العود أنه لم يمض يوم حتى كان ابنه يدبك في الحارة كالحصان، ويضيف أنه في اليوم التالي كان يمشي فوق سِيف البحر، إذ وجد اللخمة منتفخة، وقال إنها اللخمة ذاتها التي ضربت شوكتها ابنه قد لعنها الله وأماتها بدعوات المبروك المبارك محمد صالح. أما سيف بن خلف، هذا الرجل الذي تقلب كثيراً حتى انتهى إلى أن صار واقعياً ثم شبه مجنون وهو من أكثر الذين عاشروا وعرفوا محمد صالح، يقول عنه إنه مجرد فقير وقلبه بريء كقلوب الأطفال ليس فيه إلا الخير والمحبة، لذلك يحبه الله ويرعاه ويمنحه بركاته ويلبي مطالبه على الجن والإنس والحشر، وكتأكيد على ذلك يقول أحمد المستريح أكبر تاجر في الحارة إن محمد صالح يستطيع أن يجمد حشرة تدب في مكانها بإيماءة من إصبعه، وبإيماءة أخرى يجعلها تدب من جديد، ويتمتم : “تبارك الله الذي أودع حكمته في عباده الصالحين كمحمد صالح”، ولذا لم يستطع أحد من الصغار أو الكبار على السواء أن يضر محمد صالح أو يهزأ به في السر أو العلن.

 لكن الأمر المحيّر حقاً، والمحيّر للجميع من أولئك الذين عرفوا خوارق الرجل وإلهاماته وطاقاته أو تحدثوا عنها، هو ما جرى له في الباطنة، إذ اختفى الرجل المغلق على أسراره مرة وبدا للناس كأن ركناً من أركان المسجد قد تهدم لغيابه الذي دام زهاء شهر، هذا المسجد الذي كان خيمة ثم تم بناؤه من الجص ولما جاء الأسمنت صار أسمنتاً، ولكن محمد صالح ظل محافظاً على ركنه في جميع الحالات، ولم يسأل أحد عن غيابه على الرغم من الدهشة التي أصابت البعض حين عاد فجأة، وذهبت التفاسير مذاهب شتى، ففي حين قال البعض إنه رجل يجري في سبحانيته يذهب إلى الخلاء للعبادة ، لولا أن “مريش البيدار” و “سالم البعير” اللذين يعيشان بالصحراء أكدا أنهما لم يرياه، قالت أم عبد الله إن للرجل الذي يملك حكمة من الله علاقات من الجن يحملونه ويطيرون به إلى عوالمهم الخفية ثم يعيدونه، وقال حمدان بن كنتوت إنه ذهب إلى عمان لرؤية قريب له في الباطنة _ رغم أن الجميع لا يعرفون أن للرجل أقارب من أي نوع كانوا – وقد تشاجرا حول ميراث لهما فغضب منه قريبه غضباً شديداً وعقاباً له على ذلك سخره لمشيئته وقام بتحويله إلى بقرة تمشي على أربع وتضرع لبناً وتُهمْهم في المساء والصباح : “أنكووووح – أنكووووح” .

(وقام حمدان بن كنتوت بتمثيل المشهد على مرأى من الجميع) لمدة أسبوع كامل ثم أعاده إلى هيئته الآدمية لما تاب محمد صالح وتنازل عن حقه ففرّ من عمان راجعاً إلى المسجد. وهذه الرواية الغريبة حقاً هزت المعلومات والمفاهيم السائدة حول الرجل المطلسم فتساءلت “تفوحة” السمراء الطويلة التي تجلب الماء من “الحليو” لتبيعه للأهالي : “كيف يجرؤ قريبه على تحويله إلى بقرة ما دام محمد صالح يستمد قوته وحكمته من الله؟”. وأجاب “غريب الغمري” الذي جاء وذهب كمن لم يجئ ولم يذهب في سخرية وهزء نادرين : “إنكم وحدكم تخلقون الناس كما تشتهون.. يا ويلكم إن لم تكونوا صادقين”. ولكن أم عبد الله عادت واستفادت من هذه الحكاية لتعزز مقولتها حول علاقة الرجل بالجن، إذ إن الذهاب إلى عمان في تلك الأيام والعودة منها على ظهر الدواب رحلة تستغرق أكثر من شهر، فكيف استطاع الرجل أن يذهب إلى عمان وأن يرجع منها إن لم يكن الجن قد حملوه وطاروا به؟ وأيدتها والدتي قائلة : إن الرجل لا يركب الدواب إطلاقاً والجميع يعلمون ذلك جيداً.. “ألم أقل لكم إن له علاقة بالجن؟”. هكذا تساءلت أم عبدالله، وضحك يومها غريب ضحكاً مريراً، وشاركه في الضحك كل من مريش البيدار وسالم البعير اللذين كانا رغم حزنهما ووحدتهما القاسية المدمرة رائعين في عالمهما الخاص، ورفع وقتها حمار مريش ذيله وضرط ضرطة حملها الهواء بعيداً، لكن حمدان بن كنتوت أصر على أن روايته صادقة وقدم أدلة عملية عليها، إذ لاحظ، كما قال، أن محمد صالح بعدما عاد من غيبته الفجائية ظل صامتاً لا يتحدث إلى أحد وكلما رأى بقرة أو سمعها تخور ارتجف جسده وفرّ منها مذعوراً كأن مسّاً من الشيطان الرجيم قد أصابه.

ولسنوات طويلة، طويلة جداً، لكنها مرت مسرعة ظل محمد صالح سراً مغلقاً للجميع يحيطونه بالأساطير والخرافة، ولم يستطع أحد فيما مضى من أيام أو في الوقت الحاضر أن يؤكد معرفته الصحيحة للرجل المجهول القادم من المجهول، والذي عاش مجهولاً رغم كل الحكايات التي دارت حول حياته، حول كونه بقرة، أو ولياً أو صعلوكاً، أو عابر سبيل، أو معتوهاً فقيراً، عاش وحيداً في عالم بدأ ينسلخ وينزلق إلى مستنقعات النسيان والمكابرة والنكران والقسوة والظلم. وغداً ـ هذا ما قاله يوماً سيف بن خلف في إحدى تجلياته الواقعية القديمة، إذ كان يحدث لفيفاً من الشبان ـ غداً مع اكتمال حلقات النسيان التي جاءت مع مجيء السيارات التي تجري بالبترول، البترول نفسه الذي قتل غريب، ذاك الطائر الغمري الذي واراه التراب فجأة في غفلة من الناس أجمعين، غداً ، قال سيف بن خلف إن محمد صالح لن يكون إلا ضحكة أو دمعة أو بصقة، وأضاف أحد الشبان هامساً في أذن سيف بن خلف: أو ريحاً.. أو غضباً.. ليس من شيء لوصفه، وليس ثمة حقيقة حوله إلا حقيقة واحدة تلك أنه إنسان من لحم وعظم يمكن لمن يشاء أن يلمسه وأن يخزه بإبره ليسيل الدم من جسده كأي إنسان آخر.. وأكد سيف بن خلف للشباب قائلاً “إنهم يمضون بسرعة، هؤلاء الأحباب، يمضون بسرعة، كلنا نمضي بسرعة..”. وصمت. وقد لاحظ الحضور دمعات ترقرقت في عيني سيف بن خلف، وحين كان الزمن يهدر بقسوة ويدور كالطاحونة الهوجاء ـ ولم يكن أحد يسمع هديره إلا محمد صالح والغمري الذي رحل والبيدار الذي نحر نفسه بداسه وفيما بعد سيف بن خلف بحسه الواقعي الشفاف ـ  كأن كل شيء يتغير ويتحطم وينشأ من جديد، وظلت العجائز وظل الشيوخ يروون الحكايات حول الرجل فترة من الزمن حتى وافى بعضهن وبعضهم الأجل ومسح النسيان ذاكرة البعض الآخر، ولم يبق من محمد صالح إلا اللحم والعظم، لم يبق ثمة مسافة بين الحلم والواقع، بين الخيال والحقيقة، بين الوهم والأسطورة والصدق إلا اللحم والعظم وحدهما، وحين زالت الخيام وشقَ الطريق الجميرة إلى نصفين وركضت السيارات فوق الأسفلت لاهثة وسدت شبابيك المسجد لتكييفه بالمكيفات ظل محمد صالح محافظاً على ركنه الأوحد الغارق في الظلمة والنسيان في المسجد والمنبعث من جنباته روائح قديمة، مثل روائح الكتب العتيقة، إذ عاثت فيها الصراصير، أو كرائحة القيء البائت المحمض، وانشغل الناس بالهموم الجديدة والحياة الجديدة حتى لم يعد أحد يتساءل من أين يأكل الرجل بعد أن كف عن مألوف عادته التي صارت عرفاً سائداً فيما مضى في طلب المقص والإبرة والمرآة والقهوة وحبات الرطب والعصيدة، فجدران الأسمنت حجبت النساء وبنات المدارس من رؤيته، ولكن سيف بن خلف، وهذا مؤكد حقاً، الوحيد، ونظراً لقرب بيته من المسجد يعرف، الوحيد الذي يعرف أن محمد صالح قد لا يأكل لأيام طويلة، ولا يشرب الماء إلا كل يومين مرة، وحين يشرب يكرع منه كميات كبيرة، الوحيد الذي يمده بلقيمات تسد أوده وتحفظه من الهلاك جوعاً بينما الناس من حوله من رواد المسجد صاروا متخمين حتى الهلاك. وإذ تمضي الحياة المسرعة في جنون بالناس إلى حتفهم أو إلى بعثهم من جديد يلمح الصبية الصغار وهم يلعبون على دراجاتهم الهوائية على الطرقات محمد صالح ماشياً بين فترة وأخرى على الطريق الرئيسية المسفلتة ذاهباً إلى دبي أو عائداً منها حافياً متأبطاً صرته بدشداشته المصفرة المحمضة وغترته الحائلة اللون وليس من يلتفت إليه منهم، وكلما أوقف واحد منا ـ نحن الذين عرفناه صغاراً، إذ كنا نأتي إلى المسجد للاستحمام ـ سيارته ليقله، باعتبارنا نفعل خيراً، يرفض الرجل ذلك، ويستمر في المشي حتى وإن كان الوقت ظهراً وحرارة الجو والطريق لا تطاق، فكما أبى في الماضي، وقد ذكر ذلك كثيرون إلى جانب والدتي، ركوب الجمال والحمير يرفض اليوم ركوب السيارات رفضاً قاطعاً، ولا أحد يعرف إلى الآن، إلى أين يذهب الرجل في تجوالاته النادرة، وقد كشفت منذ سنوات عدة “تفوحة” أن لمحمد صالح علاقة مع إحدى النساء في دبي يذهب ليراها كلما ظهر البدر في السماء، لكنها عادت واستغفرت الله وصمتت عن ترديد روايتها لئلا يصيبها ضرر من ذلك، ولم يجرؤ بعدها إلى اليوم أحد على الشك في ذهابه إلى دبي كلما رآه يمشي في منتصف الشارع غير عابئ بخطورة السيارات وضجيجها ولا بالحرارة والرطوبة كما لم يكن في يوم من الأيام الماضية أو المقيمة يعبأ بالحياة كلها، ناسها وحكاياتهم، وجمادها وأرضها، وحيداً جاء، وعاش وحيداً، وسيمضي إلى مجهوله الذي أتى منه وكأنه يسخر ليس من الدنيا وحدها، بل من ناسها الذي يتقلبون مقالب شتى ومن ثم يمضون كما تمضي الريح تحمل الغبار والهباء إلى الأمداء السحيقة.

وإذ صحت من نومها أم عبد الله بعد خمسة عشر عاماً مذعورة هتفت : “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من كل ذنب عظيم، أي حلم هذا؟”. وكانت أم عبد الله قد أغرقها طوفان النسيان كالآخرين، وبدأت تسرد الحلم المرعب لنفسها، إذ رأت جمجمة محمد صالح قد تهشمت فوق الطريق وتناثرت شظاياها والدم الأسود القاني يرتعش على الأسفلت الساخن، تذكرته وهتفت لحفيدها : “اذهب إلى المسجد وأخبرني إن رأيت محمد صالح هناك”. ووقف الصغير متلفتاً حواليه مستفهماً. عن هذا الطلب الغريب، ثم أجابها في بلاهة والشعر ينهدل فوق جبهته البيضاء : “ماذا تقولين جدتي، محمد صالح، من محمد صالح هذا؟”. وكان الصغير الجميل المحبوب لم يسمع أبداً بخرافة محمد صالح الذي فاجأته جدته هذا الصباح فقط بذكر اسمه، كما لم يسمع صغار اليوم ذلك أيضاً، لكن من يريد منهم أن يرى الرجل، أن يلمسه ويخزه بإبرة ليسيل منه الدم، فربما يجده في المسجد نفسه، وقد لا يجد منه إلا الأصداء، ليعرف حقيقة الرجل المطلسم الذي ـ لو صحت الحكاية ـ كان بقرة في يوم ما.

عبد الحميد أحمد
من المجموعة القصصية (على حافة النهار)، إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992