عبد الحميد أحمد

سر البطيخ

البطيخ، لا غيره هو سر حيوية اللبنانيين وسر مقدرتهم على الصمود والتصدي، والكلمتان الأخيرتان لا علاقة لهما بجبهة الصمود والتصدي التي صارت في ذمة التاريخ، عليها ألف رحمة. ومناسبة حديثنا اليوم عن اللبنانيين وسر البطيخ، هو صديق زار بيروت هذه الأيام، فعاد غير مصدق لما رآه وسمعه وشاهده.

فأولاً لم يتصور أن مدينة كبيروت كانت محور أطول حرب، على خلاف غيرها من المدن العربية يمكنها أن تتعافى بهذه السرعة، ولم يصدق أيضاً أن يعود إليها اللبنانيون بهذه الكثافة ومعهم بالطبع أعداد كبيرة من مواطني الدول العربية، خاصة الخليجية وكلهم عادوا والعود أحمد إما لإعمار بيوتهم وممتلكاتهم أو لشراء عقارات واستئناف أنشطتهم التجارية.

ومع هؤلاء بالطبع الشركات العالمية، شركات طيران وعقارات ومقاولات وخدمات وغيرها.

الذي أدهش الصديق أكثر، أن كل هذه الحيوية التي دبت في عروق بيروت، إنما هي من صنع الأفراد وليس من صنع الدولة المشغولة بهمومها السياسية وبترتيب الوضع اللبناني الأمني والسياسي تحديداً.

وذكرتنا دهشة الصديق بإعجابنا الذي كان يعلو على شفاهنا أيام شهدت بيروت أسوأ الأحداث من الغزو الإسرائيلي وما تلاه حيث كان اللبناني في الداخل يتدبر أموره، رغم صعوبة وقساوة الأوضاع الأمنية والمعيشية على وجه الخصوص. وللصديق ولغيره من القراء ممن يندهشون لبيروت وأهلها نقول إن اللبنانيين عندما اختاروا البطيخ ليكون رمزاً لحيويتهم المتدفقة، أو سراً لنشاطهم، لم يكن اختيارهم خبط عشواء، وإنما من حكمة الأسلاف، وخاصة القرويين والفلاحين الذين كانوا يجدون في البطيخ أنه «بيحلي وبيسلي وبيعشي الحمار».

أيضاً لإيمانهم بالمثل «داوي الحاضر بالحاضر» الذي كان مصدره بطيخة إحدى عجائز عين المريسة، التي روى نقلاً عنها سلام الراسي، حكاية دكتور يدعى يوحنا ورتبات اشتهر بمعالجة الناس مجاناً، وحدث أن زار مرة أحد المرضى فوجده معافى ولا يستدعي أي علاج فسأل أهله عن السبب فقالوا: «نحن فقراء حكمتنا حسب مكنتنا، ولذلك نداوي الحاضر بالحاضر، فقد أحضرنا كمية من البطيخ، ورحنا نطعم المريض منه باستمرار، ونضع قشوره الباردة على جبينه الحار، فيرشح جسمه بالعرق من أكل البطيخ ويتندى جبينه بالبرودة من قشوره الباردة، وبهذه الطريقة عالجنا المريض إذا ارتفعت حرارته». ومنذ ذلك الوقت صار الدكتور كلما سمع عن مريض ارتفعت حرارته يقول للأهالي: «داووا الحاضر بالحاضر» حتى صارت العبارة قولاً مأثوراً يحفظه اللبنانيون ويبعد عنهم اليأس والكسل ويمدهم بالطاقة للعمل، في أحلك الأوقات وأشدها مرارة.

ومداواة الحاضر بالحاضر، هو ما لجأ إليه اللبنانيون في عز الأزمة، بالاعتماد على النفس وتحمل المشقة والابتكار وعدم استجداء الدولة في كل حين لحل المشكلات، وبروح التعاون والجماعة والتكاتف، وقد شبهت صحيفة عربية قبل يومين ما يجري في لبنان حالياً من إعادة إعمار وبناء وعمل يقوم على أكتاف الأفراد، لا الدولة، بالجمعية التعاونية، التي تدير البلد ومرافقه في غياب فاعلية الدولة وضعف إمكانياتها.

فالعمل هو الذي يميز بين حالتين حالة زلمي بيموت مهتري من كثرة الاستعمال وحالة زلمي بيموت مصدي من قلة الاستعمال، على حد القول الذي يعرفه اللبنانيون جيداً وبما أن المواطنين في غالبية الدول العربية مالوا إلى الحالة الثانية وفضلوها، فمالت بلدانهم إلى التخلف والفقر، وبعضها إلى المجاعة، ولم تفد معها وصفات البنك الدولي ولا خطط التنمية الخمسية والعشرية وغيرها من التي يقرأونها في الصحف الرسمية، فإننا ننصحهم هذه. المرة بالبطيخ اللبناني، الذي يمكن أن يكون شافياً من آفتهم، خاصة أنه بضاعة عربية منا وفينا، لم نستوردها من الأجانب، علاوة على أنه مضمون أحمر بلا سكين، ومطرح ما يسري يمري، ومن لا يريد مداواة الحاضر بالحاضر، على الطريقة اللبنانية فليس أمامه إلا انتظار خطط التنمية العربية الشاملة، ووعود الرفاهية، وأكل البطيخ اللي يحلي ويسلي… وبس!

من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.