يفكر الأمريكيون حالياً وبمناسبة احتفالهم بمرور ٥٠٠ عام على اكتشاف بلادهم بمنح كريستوفر كولومبوس الجنسية الأمريكية بعد الوفاة فقد صرح أحد أعضاء الكونجرس أنه لا يجوز قط أن يكون مكتشف أمريكا أجنبياً.
ومع أن أمريكا لا تحتاج لمناسبة للحديث عنها فهي تملأ الدنيا أخباراً وحضوراً، خاصة هذه الأيام حيث تقود العالم من زمارة رقبته إلى النظام العالمي الجديد، على حسب ما يقولون إلا أن القارئ عدنان الطوباسي جعلني مؤخراً أتجول في عرض أمريكا وطولها وأنا جالس في مكتبي.
فابن بطوطة الطوباسي، وهذا الاسم اخترته له من باب المداعبة، دأب منذ أيام على إرسال خواطره وانطباعاته عن أمريكا، حيث يقوم فيما يبدو بسياحته الصيفية في بلاد «الانكل سام» وكل صباح أجد على المكتب وريقات فاكسية من صديقنا ابن بطوطة، مرة من نيويورك ومرة من واشنطن وثالثة من لوس أنجلوس وهكذا. وما يفعله القارئ العزيز حسن وجميل، فهو على الأقل على خلاف بقية سياحنا العرب، يكتب ويدون مشاهداته ويرسلها مفكسسه للنشر، ومشكلته أنه يزور قارة شاسعة لا بلداً، علاوة على اشتهار أمريكا بمتناقضاتها وغرائبها من كل صنف ولون، مما يجعل الكتابة عنها وحولها مهمة صعبة يعجز عنها حتى ابن بطوطة الحقيقي أو ماركو بولو.
وهكذا رأيت أنه من المناسب أن أشارك الصديق القارئ انطباعاته، فمن غير المعقول أن يتكبد يومياً مشقة الكتابة وكلفة الفاكس، ثم أواجه كما تواجه الحكومات العربية مواطنيها بأذن من طين وأخرى من عجين، فيصيبه الإحباط واليأس، زيادة على ما هو فيه من دهشة وانبهار بغرائب أمريكا.
ونبدأ من البداية بحكاية زوجين أمريكيين كانا يتجولان في اللوفر بباريس وعند مومياء مصرية استوقفتهما لوحة كتب عليها «١٢٣٢ ق.م» فاندهشت المرأة وسألت زوجها: ماذا تعني هذه الأرقام؟ فرد عليها: لست أدري بالضبط، لعله رقم السيارة التي دهستها!
وما نعنيه هو أن الأمريكان أجانب في أجانب، جاءوا إلى القارة الجديدة من أوروبا ومن أفريقيا وأمريكا الجنوبية وبعد ذلك من كل دول العالم، فاشتغلوا وصارت الأرض الجديدة ورشة شغل، وتقدمت بلادهم وإن على أكتاف غيرهم، لكن هذا المزيج الثقافي والعرقي مضافاً إليه التقدم الحضاري وآفاته، جعل من بلادهم أرض المفارقات والعجائب فالفرد منهم يجري جري الوحوش للمعيشة والعمل والثراء، إلى درجة طغيان هموم الفرد المعيشية والحياتية والأمور الخاصة على أي اهتمام آخر عام، فصارت بقية العالم، بحضارته وبلدانه ومشكلاته وهمومه، لا وجود لها لدى المواطن الأمريكي، ويكفي أن يهتم الرئيس وإدارته ومخابراته ومستشاروه بذلك نيابة عنهم فيما يكتفون هم بــ «الهوت دوج» و«الرجبي» ومشاهدة «دالاس» و«فالكون كرست». وإذا كان الزوجان السابقان لم يعرفا المومياء، فإن أحد أعضاء الكونجرس صافح مرة في مقر الأمم المتحدة جوليان هكسلي عندما كان رئيساً لليونسكو وقاله له: لي الشريف بالتعرف إليك فإعجابي باليونسكو يزداد، ثم واصل عضو الكونجرس: يونسكو، هذا البلد الصغير الذي حارب بشجاعة فائقة في سبيل الحرية!
ولماذا نذهب بعيداً؟ فالأمريكان على الرغم من أن تقدمهم كان يشاركهم فيه الحصان، أيام الكاوبوي والحروب الأهلية وغيرها، أصبحوا لا يعرفون هذا المخلوق إلا بالتلفزيون، ولقد اندهش قبل سنتين أحد السياح الأجانب في نيويورك لجمهرة من الأمريكيين احتشدوا في الشارع الخامس، حيث كانت إحدى الممثلات قد دخلت في مراهنة، فامتطت ظهر جواد وهي عارية، وحسب صاحبنا أن الناس يتفرجون عليها، لكنه بعد ذلك مات ضحكاً حين عرف أنهم تجمهروا لمشاهدة الحصان على الطبيعة.
هذه هي أمريكا التي وصفها أحد الأصحياء بأنها البلاد التي يعتبرك فيها الناس مجنوناً إذا لم تستشر الطبيب النفساني مرتين كل أسبوع. وما نرجوه هو أن يعود إلينا قارئنا العزيز ابن بطوطة معافى من الزوغان والتوهان ومن الشم والدخان ومن تصديق كل ما يراه ويسمعه في إعلامهم فيردده علينا كالببغان في كل حين وإن: قال الأمريكان، عند الأمريكان يحيا الأمريكان.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.