غداً الأربعاء، هو يوم مدريد في التاريخ، حيث تستضيف المدينة أهم المؤتمرات في التاريخ المعاصر.
فالسلام بيننا وبين إسرائيل لم يعد قضيتنا الأولى، بل هو قضية العالم أجمع، الذي بدأت دوله وأممه تتحدث وتحلم بما يسمى بالنظام العالمي الجديد، الخالي من الصراعات العسكرية والنزاعات والقتل والتدمير.
وكانت قضيتنا التي أطلقنا عليها مرات القضية المركزية، ومرات أخرى القضية الأولى، محور اهتمام العالم في الشرق والغرب، ولم تبق دولة لم تكن ضليعة بشكل أو بآخر فيها سواء التي تآمرت ضدنا لصالح إسرائيل، أو التي ساعدتنا ضد إسرائيل وكثيراً ما كانت علاقاتنا بالآخرين تتحدد على ضوء علاقاتهم بإسرائيل ومدى قوة أو ضعف هذه العلاقات.
ولن نستعيد تاريخنا المر والمرير مع الكيان الصهيوني، ذلك لأن نكئ الجراح ونحن على وشك الدخول إلى القصر الملكي بمدريد حيث ينعقد المؤتمر غداً، سوف يفسر ويفهم على أنه كلام ضد المؤتمر وضد السلام، فيما الجميع ارتضى بالسلام طريقاً لحل المعضلة وبالمفاوضات أسلوباً للخروج من جحيم هذه المشكلة المعقدة والتي اصطنعها الغرب وزرعها في بيتنا مع أن هذه الجراح ستبقى مفتوحة لا يطفئ نارها مؤتمر مدريد أو غيره.
ثم إن هجوم السلام الذي شنته الولايات المتحدة هذه المرة على إسرائيل وعلينا، مدعومة من الاتحاد السوفييتي وأوروبا، واقتضى معها أن يقطع وزير خارجيتها جيمس بيكر حوالي ٢٥٠ ألف كيلومتر في جولاته المكوكية الثماني، لم تترك مجالاً لأحد إلا أن يذهب إلى مدريد وبين ابطيه أوراقه وملفاته، وإلا فلا دور له ولا مجال خارج هذا الترتيب.
ومنذ اليوم، الكل إلى مدريد، وغداً لا نعرف كيف سيكون الافتتاح، الذي أعتقد أن العالم يترقب رؤيته بشوق، ونحن نتشوق لرؤيته بفضول عارم، كما اعتدنا انتظار مباريات كرة القدم الساخنة وها نحن أمام مباراة في الخطابة والمكر والدهاء وضبط النفس وطوله وحرب أعصاب في قاعات باردة وهي أدوات وآلات المؤتمرين الذين كانوا حتى أمس يتحاربون بالدبابة والمقاتلة والمدفع وبالإذاعات والصحف، فإذا بهم من الغد سيتحاربون بالكلام والحجج والخطابة.
لهذا فإن شامير أصر على الذهاب بنفسه إلى مدريد، مخالفاً القواعد البروتوكولية، ومعه طاقم من المتشددين لإدارة المفاوضات الثنائية، رأسماله، إضافة إلى التشدد والتطرف، اللسان السليط والبلاغة الصاروخية والخطابة المفوهة. وكان رئيس وزراء بريطانيا الأكثر شهرة ونستون تشرشل يتدرب لساعات في بيته على ما يريد قوله أمام البرلمان البريطاني لإقناعهم ولانتزاع موافقتهم على قراراته السياسية، ويروى عنه أنه بعد فترة من تعيين نورمان ماكجوان خادماً شخصياً له سمعه يتكلم بلغة خطابية مرتفعة في الحمام فسأله: هل تناديني يا سيدي؟ فأجابه تشرشل كلا يا نورمان، كنت أخاطب مجلس العموم!
ولا خوف لدينا على مفاوضينا، فهم أحفاد قس بن ساعدة وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن ابي سفيان والحجاج بن يوسف وبعضهم لعله من تلاميذ أحمد سعيد وهم يجيدون الخطابة كما لا يجيدها أحد في العالم، وإذاعاتنا تشهد على ذلك منذ بدأت مشكلتنا في فلسطين، ونحن واثقون من انتصارهم الكلامي على الخطيب الإسرائيلي مهما كان مفوهاً ومتدرباً على ذلك خاصة أنهم يملكون الحق، لكن خوفنا يأتي من التاريخ الذي علمنا أن لا حق، بلا قوة، والقوة ليست عندنا ولا في مدريد.
من كتاب (خربشات في حدود الممكن)، إصدارات البيان، 1997.