عبد الحميد أحمد

بعد خراب البصرة

قال مدرس عراقي شاب، تحدث مؤخراً إلى وكالة رويترز إنه إذا أعلن صدام حسين أن الأرض مثلثة الأضلاع وليست كروية فلن أجادل، لأنني أريد أن أعيش.

وعلى طريقة أبعد عن الشر وغن له، فإننا نفهم كلام هذا المدرس ولا نستغربه، لأن صدام قبل ذلك، قال للعراقيين إنه انتصر في «أم المعارك» فصدقوه على مضض، وهم يعرفون إنه لم يخسر الحرب فحسب بل دمر بلادهم وحياتهم، إلى خمسين سنة مقبلة.

وذكرتنا جملة المدرس العراقي ببعض النكت التي راجت خلال حكم صدام، والنكتة كما تعرفون، هي أداة التنفيس والفضفضة السرية، التي لولاها، لمات نصف العراقيين، وغيرهم من شعوب الأرض المحكومة بالحديد والنار والمخابرات، من الكبت والقهر، قبل أن تتوقف قلوبهم عن النبض بسبب الخوف.

وتقول إحدى هذه النكت إن صداماً دخل مرة دار سينما متنكراً، وهو على كل حال خبير في فن الاختفاء والتنكر حتى للمواثيق والمعاهدات، ويصلح لأن يكون موسوعة قائمة بذاتها في هذا المجال، وثبت أنه يجيد مثل هذه الحيل والألاعيب أكثر مما يجيد الحكم والسياسة، وأن لديه من أدوات التخفي والاختباء أكثر مما لديه من سكود ومدافع عملاقة وكيماوي مزدوج، فلما أظلمت صالة العرض، ظهرت على الفور صورته على الشاشة في لقطات منوعة، وهو يخطب وهو يتفقد العسكر بزيه العسكري، إلى آخر هذه اللقطات التي عادة ما تظهر للناس حتى في دور السينما لتذكيرهم بمصيرهم قبل أن يبدأ الفيلم، فما كان من المشاهدين إلا أن هبوا واقفين وهم يصفقون فيما ظل هو جالساً، فانحنى عليه أحد الحضور وهمس في أذنه: قف أيها الغبي، القاعة تعج برجال المخابرات فهل تريد أن تسحل من أجل هذا…؟

وعلى ذكر الخوف، فإن تقريراً لمؤسسة التأمين الإسرائيلية نشر مؤخراً ذكر أن عدد الإسرائيليين الذين ماتوا بسبب صواريخ سكود بلغ ٤٧ شخصاً، وهو رقم يفوق ما ذكر سابقاً من أن العدد بلغ ٢٠ شخصاً فقط لكن التقرير يقول إن اثنين فقط ماتا نتيجة القصف المباشر وأربعة اختناقات بسبب الأقنعة الواقية، أما الباقون فماتوا من أزمات قلبية، أي بسبب الخوف.

وبما أن التقرير إسرائيلي، فإنني شخصياً لا أميل إلى تصديقه أولاً لأن صواريخ سكود العراقية ثبت أنها، وكما أعلن الروس مؤخراً، عتيقة من سكراب الجيش السوفييتي، وقد رأيناها وهي تتناثر في الجو كطائرة ورقية ومعها بالطبع مئات الملايين من الدولارات هي قيمة شرائها وتكاليف تخزينها وصيانتها، وثانياً، وهو الأهم، لو أن الإسرائيليين يموتون من الخوف، لكانت فلسطين محررة الآن، فعدة حروب خضناها معها، ومئات الهجمات والعمليات الفدائية، كانت تكفي لذبح اليهود عن بكرة أبيهم بالسكتة القلبية وضغط الدم وانفجار الدماغ الذي يسببه الذعر والخوف، غير أن ما نراه اليوم هو أن إسرائيل أقوى منا، وصرنا نحن نخشى على أنفسنا من الموت خوفاً وبالسكتة الصامتة، دون أن نجد من يسمي علينا أو يترحم لنا.

ولو أن عاقلاً يصدق مثل هذا التقرير الإسرائيلي، فالأولى أن يصدق أن نصف العراقيين ماتوا أو يموتون الآن من كافة أنواع الرعب وصنوفه، فعندهم سكود إنتاج وطني فاق في تدميره سكود السوفييتي، الذي لم يقتل سوى مواطنين إسرائيليين، مقارنة بالوطني الذي دمر وذبح وشرّد من مواطنيه مئات الآلاف. غير أن العراقي ومعه العربي، الذي لم يقتله الخوف، يقتله اليوم الحزن على المليارات التي أنفقها صدام على الحديد والصفيح والخردة، التي جمعها من الشرق والغرب للمعركة الكبرى مع إسرائيل، فإذا بها معركة كبرى ومنازلة عظيمة تحرق ولا تذر شيئاً في ديار العرب، فيما إسرائيل تجني ثمار «المنازلة الكبرى» وتتفرعن على العرب.

ومع ذلك، فهي تدور، والعراقي اليوم ينتظر فرج الله ولو على يد أمريكا وبعد خراب البصرة.

من كتاب (النظام العالمي الضاحك)، إصدارات البيان، 1998.